بعد غياب عن أرض الوطن دام حوالي الثلاث سنوات، دون أن يعني ذلك إنقطاعاً أو ابتعاداَ عن همومه ومشاكله وصراعاته وأحداثه السياسية والاقتصادية والأمنية، عدت إلى أرض الرافدين ثانية ، بعد منفاي الأول الذي دام أكثر من ثلاث عقود، تنتابني مشاعر مختلطة ومتناقضة بين التفاؤل والتشاؤم والقلق والخوف والشعور بأن الأمور سوف تسير نحو الأحسن وتصبح على مايرام .


وجدت العراق مايزال يعيش تحت حطام السنوات الماضية يعمه الخراب والفوضى، مشلولاً ينتظر المعجزة للخروج من المأزق وحالة الركود والترقب التي انزلق إليها بالرغم من التحسن الأمني الملموس الذي حققته حكومة السيد نوري المالكي على صعيد الحياة اليومية التي ينخرها الفساد والتضخم وغلاء المعيشة . الكل هنا يردد عبارة quot; لقد تعبنا ولم نعد نحتمل هزة أمنية وعسكرية أخرىquot; بل أن البعض ضاق ذرعاً بوطنه وصار يقول quot;أشعر بالعار من عراقيتيquot;. كان هذا في الأيام الأولى لوصولي إلى بغداد في أواسط شهر آذار الجاري . وبين عشية وضحاها تفاقمت الأوضاع الأمنية في البصرة أولاً، ومن ثم في باقي أنحاء البلاد وتصاعدت وتيرة المواجهات المسلحة بين ميليشيات مسلحة منفلتة خارجة عن القانون من جهة وقوات الجيش والشرطة العراقيتين من جهة أخرى ، مع مايترتب على ذلك من عواقب وانعكاسات معنوية ونفسية ومادية وخسائر بشرية بات على المواطن العراقي أن يتحملها مرغماً أقلها حظر التجوال ونقص المواد الغذائية والتموينية وارتفاع أسعارها إلى أضعاف ماهي عليه مع صعوبة الحصول عليها والمخاطر التي يتعرض لها المواطن وهو يبحث عن رغيف الخبز لعائلته وأطفاله.


مالفت انتباهي قدرة هذا الشعب المظلوم على التحمل والصبر والمثابرة ومواجهة الأخطار بحكمة وصلابة وبرودة أعصاب يندر لها مثيل.
كان صدام حسين قبل سقوطه المهين قد حرم الشعب العراقي من كافة أنواع المتع الحياتية وعزله عن العالم الخارجي وقرر أنه يمكن أن يعيش محروماً من الستلايت ومشاهدة القنوات الفضائية ومنع عنه الهواتف المحمولة والانترنيت ، لكنه اليوم ، بعد أن تذوق نعمة هذه التكنولوجيا الحديثة، لم يعد يستطيع الاستغناء عنها ، بل أصبحت بالنسبة له أهم من الماء والغذاء. فقد غدا الهاتف النقال أو المحمول والانترنيت ضرورياً كالهواء الذي يتنفسه الإنسان. لقد خلق المواطن العراقي لنفسه عالماً خاصاً يطل من خلاله على الأحداث وتطوراتها من خلال القنوات الفضائية ويطمئن على أحبائه وأهله وأقربه عبر الهاتف المحمول ويتواصل معهم ومع العالم الخارجي عبر البريد الالكتروني والانترنت وهو متمترس داخل جدران بيته وقد تجاوز عدد مبيعات الهواتف المحمولة اليوم العشرة ملايين جهاز بالنسبة لعدد سكان العراق الذي يصل إلى حوالي الـ 26 مليون نسمة حيث يتبادل العراقيون فيما بينهم الأخبار والأغاني وأفلام الفيديو التي يجدونها على مواقع اليوتيوب مجاناً.
قبل سنوات ، وفي الفترة القليلة التي سبقت سقوط نظام صدام حسين كان كل شيء خاضع للمراقبة البوليسية وهيمنة وسطوة أجهزة المخابرات العراقية المتعددة


بيد أن المواطن العراقي يشعر اليوم بالحرية وهو يتبادل الرسائل الالكترونية والمكالمات الهاتفية وينتقد الأوضاع والمسؤولين العراقيين بحرية وبلا خوف ولا تردد. لقد ازدادت الهوة عمقاً بين المواطن العراقي والمؤسسة السياسية التي تحكم البلد وتعمقت أزمة الثقة بين المواطنين والسياسيين ، وكذلك بين مختلف مكونات المشهد السياسي العراقي والكل يعتقد أنه على صواب والمقابل على خطأ، والحوار مقطوع بين الجميع ، ولو حدث أن أجري حوار ما فسيكون من قبيل حوار الطر شان بين فرقاء سجنوا أنفسهم داخل شرنقة الديموقراطية التوافقية أي المحاصة السياسية. الأزمة الحالية تنبئ عن تطورات تراجيدية مقبلة وكثير من الدماء والمعاناة والعودة إلى الوراء لاسيما إذا فشلت الحكومة في استئصال بؤر الإرهاب والميليشيات المسلحة الخارجة عن القانون والتي ترهب الشارع العراقي وتفرض عليه سطوتها وقوانينها وإرادتها وقد تمكنت بعض الميليشيات من إرغام المواطنين على المكوث في بيوتهم بقوة السلاح والتهديد بالقتل إذا خالفوا أوامرهم وتوجهوا إلى وظائفهم ومكاتبهم ومحلاتهم ، لكي يثبتوا للحكومة أنهم يسيطرون على الشارع وبإمكانهم فرض الاعتصامات والعصيان المدني والرد بقوة وحزم على أوامر الحكومة بنزع أسلحتهم وتسليم أنفسهم للسلطات الشرعية. السيناريوهات البديلة كلها كارثية وأسوء مما عليه الحال اليوم وأقلها سوءاً فرض الأحكام العرفية وإلغاء العملية السياسية وفرض الحكم العسكري والبوليسي وهو نوع آخر من الديكتاتورية البغيضة التي عانى منها شعبنا لعقود طويلة .والحال أن الشعب العراقي في وادي والمؤسسة السياسية في وادي آخر والمستفيد الوحيد هي قوات الاحتلال الأجنبية التي تراقب المشهد عن بعد وتتلاعب به كيفما تشاء.

د. جواد بشارة

بغداد
[email protected]