بعد مرور ثلاثة أيام على تمرد حزب الله على الشرعية والقانون في لبنان فاجأ الجيش اللبناني العالم بقرارين معاكسين لقراري الحكومية اللبنانية اللذين أصدرتهما الثلاثاء الماضي واللذين شملا تحويل شبكة التصالات الهاتفية التي أنشأها حزب الله وعزل رئيس جهاز أمن المطار الموالي لحزب الله والذي تباطأ في التحقيق في قضية كاميرات المراقبة التي أقامها حزب الله في المطار. جاء قرارا الجيش اللبناني بعد يومين من استيلاء قوات حزب الله على بيروت الغربية انتقاماً من حكومة فريق الرابع عشر من آذار. وأعلن الجيش في بيان أصدره أنه سيبقي على رئيس جهاز امن المطار في منصبه بعدما عزلته حكومة فؤاد السنيورة، وأنه سيتعامل مع شبكة الاتصالات الخاصة بحزب الله، التي كانت الحكومة قد أحالتها للقضاء، بطريقة وصفها الجيش بأنها quot;لا تضر بالمصلحة العامة وأمن المقاومة.quot;
وقد أثمر قرارا الجيش عن حالة مؤقتة من الهدوء في بيروت الغربية، حيث نقلت الأنباء أن حزب الله قام بعيد اتخاذ الجيش قراره بالتوقف عن اعتداءاته وسحب متمرديه من شوارع العاصمة الرئيسية. غير الأنباء ذاتها أكدت على رفض حزب الله إنهاء عصيانه المدني الذي يشمل إغلاق العديد من الطرق الرئيسية ومنها طريق المطار.
لم تصدر عن قيادة الجيش بيانات تفصيلية لشرح الحيثيات التي استند عليها قراراها، ومن ثم فمن غير المعروف ماهية الأسباب التي دفعت الجيش لاتخاذ هذين القرارين، ومن غير المعروف أيضاً إذا ما كان إلغاء قراري الحكومة خطوة تكتيكية لإعادة الهدوء للعاصمة أم أنها خطوة تعكس قناعات قادة الجيش. غير أن مفاجأة الجيش اللبناني جاءت بعد دقائق من انتهاء فؤاد السنيورة من إلقاء كلمة كانت الأولى له منذ بداية الغزوة الإلهية، والتي وضع خلالها السنيورة قراري الحكومة بعهدة قيادة الجيش. وهي الخطوة التي لم يعرف إن كانت تملصاً من جانب الحكومة من القرارين اللذين أصدرتهما الأسبوع الماضي أم أنها محاولة لحفظ ماء وجهها.
تسبب إلغاء قراري الحكومة في إحداث صدمة للعديد من المراقبين المتابعين عن كثب للأحداث في لبنان، حيث حمل قرار الجيش تراجعاً رسمياً عن قرارين اتخذتهما الحكومة التي ينظر إليها عالمياً على أنها السلطة الشرعية في لبنان. وقد كان التراجع برأي الكثيرين بمثابة الهزيمة السياسية الأكثر مرارة لحكومة فؤاد السنيورة أمام ضغوط سلاح قوات حزب الله المتمردة. ولم تشفع تبريرات السنيورة للتراجع عن قراري الحكومة بالادعاء بأن القرارين لم يصدرا بشكل رسمي ونهائي.
حمل إلغاء الجيش لقراري الحكومة إيجابيات لا يمكن إغفالها على الرغم من أحداث العنف العنيفة التي شهدها لبنان يوم الأحد. وتمثلت هذه الإيجابيات في وقف نزيف الدماء في العاصمة، وتراجع قوات حزب الله عن احتلال بيروت الغربية، وعودة بعض الهدوء للشارع البيروتي. والحقيقة أن هذه الإيجابيات قد تبدو هشة ومؤقتة في ضوء عدم رغبة حزب الله في التراجع عن تمرده وعصيانه وتصعيده للحرب في مناطق أخرى خلاف العاصمة.
غير أن إلغاء قراري الحكومة لم ينطو فقط على إيجابيات، ولكنه انطوى أيضاً على سلبيات خطيرة ربما لن يعيها اللبنانيون اليوم، وإن كانوا سيعانون تبعاتها السيئة من دون شك في المستقبل. من هذه السلبيات:
أولاً: إلانتقاص من هيبة الحكومة اللبنانية أمام جماعة خارجة عن القانون.
ثانياً: التراجع عن قرارات حكومية مهمة تتعلق بسيادة لبنان.
ثالثاً: التسامح مع الخروج عن القانون ومقاومة السلطة.
رابعاُ: عدم التعامل بحزم مع التمرد على الشرعية.
خامساً: عدم محاسبة مجرمي حزب الله على مقتل 38 لبنانياً وإصابة المئات وتخريب الكثير من الممتلكات العامة والخاصة.
سادساً: التغاضي عن شبكة اتصالات حزب الله الخاصة التي تنتهك سيادة لبنان.
سابعاً: التهاون مع تشك الحكومة في كونهم عملاء لحزب الله في أجهزة أمن المطار.
ثامناً: منح حزب الله امتيازات خاصة لا تتمتع بها القوى السياسية الأخرى على الساحة اللبنانية.
تاسعاً: القبول بسلاح حزب الله وباستخدامه ضد اللبنانيين.
عاشراً: الرضوخ أمام الضغوط المسلحة لحزب الله.
حادي عشر: التنازل عن حقوق اللبنانيين الذين أهدر حزب الله حقوقهم المادية والمعنوية.
ثاني عشر: تنازل الدولة لطائفة معينة يعني فقدان غالبية اللبنانيين الثقة في جيشهم.
ثالث عشر: ظهور الجيش في ثوب القوة الضعيفة غير القادرة التصدي لتمرد حزب الله.
رابع عشر: الطابع المؤقت الذي اتسمت به معالجة أزمة التمرد حزب الله من دون طرح حلول دائمة تتصدى لخروج حزب الله عن الإجماع الوطني على التخلي عن السلاح.
خامس عشر: إخضاع لبنان لأهواء حزب الله الذي يدين بالولاء لنظامي دمشق وطهران.
لا شك في أنه من الواجب تثمين المحاولات الحثيثة التي يبذلها الجيش بغرض إحلال الأمن وحقن الدماء. ولكن هذا لا يعني مطلقاً الموافقة على تركيع الدولة اللبنانية أمام قوة سلاح ميليشا خارجة عن القانون. فالتسامح مع تمرد خطير كالذي قام به حزب الله سيضاعف من عسر مهمة الحكومة اللبنانية في السيطرة على زمام الأمور في لبنان في المستقبل. هذا فضلاً عن أن التسامح مع سلاح حزب الله سيعني أن الحزب سيبقى من الان فصاعداً خارج نطاق الالتزام بالشرعية والقانون في لبنان. من المؤكد أن للجيش حساباته الدقيقة للموقف في لبنان والتي تتضمن الرغبة في التهدئة ووقف الاقتتال، والحفاظ على الحياد التام في التعامل مع جميع الأطراف، وتجنب الحرب ألأهلية، وعدم الدخول في مواجهة غير متوازنة مع ميليشيات حزب الله. ولكن قرار الجيش بإلغاء قرارات الحكومة من دون تقديم قادة حزب الله تعهدات بالالتزام بالقانون وباحترام الشرعية يعد تنازلاً خطيراً عن كرامة الدولة اللبنانية.
كان غدر حزب الله بلبنان وانقلابه على الشرعية اختباراً حقيقياً لقوة وصلابة وحكمة العماد ميشال سليمان قائد الجيش والمرشح الأوفر حظاً لمنصب رئاسة الجمهورية. ولست أعتقد أنه من الإتصاف الحكم على ما أبلى به العماد سليمان في الاختبار السياسي الأول له، لأن فريق الأغلبية قرر التضحية به في معترك الأحداث الاخيرة في مقابل نجاة حكومتهم. وجد العماد سليمان نفسه في موقف لا يحسد عليه بين مطرقة الحكومة الباحثة عن طوق نجاة وبين سندان الآلة العسكرية لحزب الله المتمرد، فلم تكن أمام الرجل خيارات أفضل من التدخل سياسياً لإلغاء قرارات الحكومة، والنزول بقواته للشارع البروتي لانقاذ ما يمكن انقاذه.وإنصافاً للحقيقةفقد وضعت الحكومة الجيش وقائده في مأزق خطير بعدما فشلت في التعامل بحزم وحكمة مع الأحداث والتطورات الخاصة بشبكة اتصالات حزب الله وبرئيس جهاز أمن المطار. ولعل هذا يفتح من جديد قضية عجز الحكومة عن فرض سيادة الدولة والقانون فوق الأراضي اللبنانية. فقلد أظهر تراجع فريق الرابع عشر من آذار عن قرار الحكومة مدى ضعف الفريق وعجزه عن مواجهة العواصف السياسية والتحديات المسلحة التي يشكلها حزب الله. ألم يكن من الأفضل للحكومة عدم التسرع باتخاذ القرارين اللذن كانت تعلم بعدم إمكانية تنفيذهما عملياً.
من السذاجة إغفال الدور الذي لعبه سياسيو لبنان بمن فيهم فريق الرابع عشر من آذار في إنفلات الأمور في لبنان بعدما عجزوا عن مواجهة قضية سلاح حزب الله طوال السنوات العشرين الماضية. فطوال السنوات التي تلت الحرب الأهلية حين لم يتمتع حزب الله بالنفوذ والقوة اللذين يتمتع بهما اليوم، ولكن أحداً لم يجرؤ على نزع سلاح الحزب. بل أن الكثيرين من رجالات السياسة اللبنانيين نظّموا الأشعار لنفاق الحزب وقادته عندما كانت تحتدم المواجهة بينه وبين إسرائيل. وقد أثمرت السياسة قصيرة النظر التي انتهجها سياسيو لبنان حيال حزب الله عن تمرد الحزب على لبنان واللبنانيين. لقد بلغت القوة العسكرية لحزب الله ما لم تبلغه قوة لبنانية أخرى بما فيها الجيش، وأصبح من العسير ترويض الحزب وقادته المغرورين. ولعل احتلال الحزب لبيروت الغربية من دون معوقات أو عقوبات لم يكن إلا المقدمة التي سيتبعها الحزب بإملاءات لا تتوقف على لبنان واللبنانيين.
لقد أصبح رحيل حكومة الرابع عشر من آذار الضعيفة مطلباً ضرورياً الأن بعدما تجرعت هزيمتين بطعم العلقم إحداهما عسكرية حين احتل متمردو حزب الله العاصمة اللبنانية والأخرى سياسية حين تراجعت تحت ضغط سلاح متمردي حزب الله عن قرارين كانت اتخذتهما بغرض الدفاع عن لبنان وسيادته. هذان الهزيمتان اللتان ستلعبان دوراً كبيراً في إطلاق يد حزب الله المتمرد في لبنان. ولقد فقدت الحكومة مصداقيتها بعدما تبخرت الأمال التي عقدها الكثيرون عليها باعتبارها قادرة على اتخاذ ما يلزم من قرارات وإجراءات مصيرية لحماية لبنان. ولعل الخيار الأفضل للبنان في الوقت الراهن هو تشكيل قائد الجيش العماد ميشال سليمان لحكومة عسكرية مؤقتة تتولى قيادة البلاد في هذا الوقت العصيب وتقوم بالإعداد لانتخابات برلمانية ورئاسية في القريب العاجل. ولا شك في أن حل الأزمة الحالية في لبنان لا يبدو يسيراً في ضوء التحديات الجدية والخطيرة التي يشكلها حزب الله لمستقبل هذا البلد. ويا لها من أيام عصيبة تواجهك يا وطن الحرية والثقافة والجمال سابقاً.
جوزيف بشارة
[email protected].
- آخر تحديث :
التعليقات