نظرة من الداخل 4

كانت المعارك والاشتباكات المسلحة العنيفة ماتزال تدور بين القوات العراقية وقوات الاحتلال الأمريكية من جهة وعناصر جيش المهدي المتمردة على السلطة المركزية والخارجة على القانون من جهة ثانية، عندما قررت مغادرة العاصمة العراقية والعودة إلى باريس، ولاتزال المعارك مستعرة إلى اليوم ولأكثر من شهر تقريباً لاسيما في مدينة الصدر وبعض أحياء بغداد الأخرى التي كانت تتحكم بها ميليشيات جيش المهدي وتملي عليها قوانينها وإرادتها ونمط حياتها، خاصة بعد الاندحار الذي منيت به تلك الميليشيات في أقوى معاقلها في البصرة إثر هجمة صولة الفرسان والتي تسببت بمقتل واستشهاد مايزيد على الـ 1150 شخص بينهم الكثير من المدنيين الأبرياء الذين كانوا رهائن بيد تلك الميليشيات التي حولتهم إلى متاريس لتختفي خلفهم وانتشرت بينهم واتخذت منهم دروعاً بشرية تحتمي بهم من ضربات القوات العراقية والأمريكية والبريطانية ومن قصف طائرات التحالف ضدهم، ولقد لجأت تلك الميليشيات الإجرامية إلى الأطفال للقيام بأعمال التجسس والمراقبة وتتبع الأرتال العسكرية ومعرفة اتجاهاتها وزرع العبوات الناسفة في طريقها بالرغم من خطورة مثل هذه الأعمال العسكرية على حياة هؤلاء الأطفال.


أخذني السياسي العراق ( times; إكس)، الذي طلب عدم ذكر إسمه لأسباب أمنية تتعلق بحياته، بسيارته في جولة سريعة وخاطفة إلى مدينة الصدر الجريحة لرؤيتها من الداخل قبل أن يتوجه إليها وفد البرلمانيين وقبل اعتصام البعض منهم داخلها احتجاجاً على قصفها، فوجدتها مدينة أشباح كأنها ديكور من ديكورات هوليود لأفلام الكوارث، مدينة تفوح منها رائحة الحزن والبارود والحرائق وروائح القمامة الكريهة التي لاتطاق والتي تنبعث من كل زاوية فيها إذ تعلوها أكوام القمامة المتحللة ومياه المجاري الطافية والمياه الآسنة المليئة الجراثيم وتطل على طرقها الخربة الواجهات المدمرة والبيوت المهدمة وهياكل السيارات المحترقة والطرقات المحفورة وشبه المهجورة حيث يتربص الموت في كل ثانية وكل شبر فيها سيما من أشباح القناصة الملثمين أو القناصين الأمريكيين الذين تمركزوا على أسطح البنايات المشرفة على الساحات حيث نستطيع أن نرى ونلمس ونشعر بآثار المعارك على الأرض وإطلاقات الدبابات والعربات المصفحة ومدافع الهاون والصواريخ ونتائج القصف الجوي العشوائي، وهجمات السمتيات وطائرات الهليكوبتر والطائرات بدون طيار المزودة بالصواريخ العمياء لتقتل أكبر عدد ممكن من المسلحين وتبيد المئات من مسلحي جيش المهدي ومعهم المئات من المدنيين الأبرياء وهم داخل بيوتهم يعتصرهم الخوف والقلق من الموت خاصة الأطفال. فالقوات الأمريكية والعراقية تخوض حرباً حقيقية وليس مجرد مناورة عسكرية محدودة لكبح جماح مجموعات مسلحة معزولة منفلتة وخارجة على القانون داخل معقل هذا الجيش في مدينة الصدر كما تدعي الجهات الإعلامية الأمريكية والحكومية وهي المرة الثالثة التي تتصدى فيها القوات المحتلة لهذه الميليشيات العنيدة منذ العام 2004.


بدأ الهجوم على ميليشيات مقتدى الصدر المقيم في إيران منذ فترة، بأمر مباشر من رئيس الوزراء الأستاذ نوري المالكي في 24 آذار الماضي بعد وصولي إلى العاصمة العراقية بأيام قليلة، وبدأت الحملة في مدينة البصرة quot; لتطهيرها من العناصر المسلحة التابعة لعدد من الميليشيات والعصابات الإجرامية الخارجة على القانون quot; على حد تعبير رئيس الحكومة الذي ذهب بنفسه إلى البصرة لقيادة العمليات العسكرية من هناك بصفته القائد العام للقوات المسلحة العراقية. واليوم يقود الأمريكيون بأنفسهم المعارك الشرسة الدائرة حالياً في أخطر معقل من معاقل جيش المهدي ألا وهو مدينة الصدر ذات الكثافة السكانية العالية، quot; أكثر من 2.5 مليون نسمةquot;، وحيث تجاوز عدد القتلى من الجنود الأمريكيين الخمسين قتيلاً وهو الشهر الأكثر دموية الذي يعيشه الأمريكيون منذ عدة شهور في تلك المعارك الطاحنة التي تدور في الشوارع والأحياء والأزقة الضيقة والتي ماتزال تدور حتى اليوم في إيقاع متقطع وسقط فيها أكثر من 445 مدنياً ومئات الجرحى والمصابين إلى جانب الخسائر المادية. فما الذي يريده مقتدى الصدر من هذه المواجهات العبثية؟ وهل يعتقد حقاً أن بإمكانه تحرير العراق من الاحتلال بهذه الوسائل البدائية التي تدمر الشعب وتسحق معنوياته؟ لو كان والد مقتدى الصدر المرجع الشهيد محمد محمد صادق الصدر على قيد الحياة لأعلن براءته من هذا الإبن النزق ومن سلوكه العبثي غير المسؤول وغير المكترث بحياة الآلاف والآلاف من الأبرياء من أبناء جلدته ومذهبه الذين كانوا قاعدة مرجعية والده وحاضنته الجماهيرية في أيام النظام الدكتاتوري البائد، وجلهم من الفقراء والمحرومين الذين ذاقوا الأمرين في عهد صدام المقبور ومازالوا يدفعون دمائهم وحياتهم ثمن طيش هذا الزعيم الذي لايتمتع بأدنى مميزات ومستلزمات الزعامة، ويفتقد إلى البصيرة والحكمة والفهم والتحليل الصحيح لموازين القوى ولمجريات الأمور وخفاياها فهو ألعوبة بيد الجميع يحركونها كما يشاؤون.


لقد صادر مقتدى الصدر مدينة الثورة وأطلق عليها إسم والده عام 2003 بعد سقوط النظام السابق وتسلم قيادة التيار الصدري، وهو تيار جماهيري وطني أفرز أسماء مهمة على الساحة السياسية العراقية كالشيخ المرجع محمد اليعقوبي على سبيل المثال لا الحصر، وتصدى لقيادة هذا التيار كأنه ورثة من والده لايحق لأحد غيره قيادته ولم يتجاوز الثلاثين من عمره بعد آنذاك، وقد بلغ الرابعة والثلاثين اليوم لكنه يتصرف وكأنه مراهق لايتجاوز العشرين عاماً. وهو يتحدى السلطة الشرعية والقانون رغم دخوله في اللعبة السياسية وانضمامه إلى الإئتلاف العراقي الموحد ومشاركته في الانتخابات التشريعية البرلمانية وإصراره للحصول على أكبر عدد من المقاعد حين اضطرت قوى معروفة للتنازل عن مقاعد برلمانية لها لصالحه كحزب الفضيلة وحزب الدعوة جناح المالكي لإرضائه وبالتالي صار له 30 نائباً وست وزارات فما ذا يريد أكثر من ذلك؟


لقد رفض مقتدى الصدر شروط رئيس الوزراء السيد نوري المالكي الأربعة لوقف المعارك وهي شروط قانونية معقولة ومقبولة من قبل الجميع وليس فيها تعجير أو إجحاف بحقه أو بحق غيره من القوى المعنية بتلك الشروط التي وافقت عليها كافة القوى السياسية عدا التيار الصدري وبالطبع التكفيريين والصداميين. وهكذا وضع مقتدى الصدر نفسه في نفس خانة أو خندق القوى المعادية للتغيير الذي جاء بديلاً ديموقراطياً لنظام البعث الدكيتاتوري السابق. السيد المالكي ليس عدوا للتيار الصدري فهو زعيم شيعي متدين ومستقيم ووطني ذو تاريخ ناصع ونظيف ورئيس لحزب سياسي مناضل وعريق هو حزب الدعوة الذي أسسه الشهيد الصدر الأول المرجع محمد باقر الصدر في أواخر خمسينات القرن الماضي ودفع حياته ثمن نضاله ضد النظام الدموي البائد، ويحاول السيد المالكي من موقعه كرئيس منتخب للحكومة العراقية أن يكون فوق الطوائف والقوميات والأحزاب ويتصرف كرئيس وزراء للعراق كله وأن ينقذ البلاد والعباد كما يملي عليه الواجب الوطني والشرعي، من طغيان وقسوة واستبداد وبطش الميليشيات المسلحة ومعها القوى التكفيرية المتشددة والمتطرفة والعناصر الصدامية المجرمة التي ماتزال تحمل السلاح بوجه السلطة الشرعية وتحلم بالعودة لحكم العراق بالحديد والدم والتصفيات الجماعية. فلايمكن للولايات المتحدة ان تترك العراق وتسلمه السيادة الكاملة وإنهاء احتلالها له، بما فيها سيطرته التامة على كافة شؤونه الأمنية والعسكرية والاقتصادية والسياسية قبل نهاية هذا العام، قبل تصفية تلك الميليشيات المهددة لكيان العراقي برمته وتجريدها من أسلحتها، خاصة عندما تحين فرصة طرح موضوع العراق في مجلس الأمن الدولي لإخراجه من البند السابع الذي يفرض عليه وصاية دولية بسبب سياسات النظام السابق العدوانية، وهذا يتطلب نزع سلاح الميليشيات وكل القوى الأخرى التي تملك ميليشيات سنية كانت أم شيعية، ومعها العصابات الإجرامية المحترفة، وبكل الوسائل والطرق المتوفرة بما فيها القوة العسكرية، لسحب الأسلحة الثقيلة والمتوسطة الموجودة بين أيدى تلك القوى الإجرامية والخارجة على القانون بكل ألوانها ومسمياتها وحصرها بيد الدولة فقط. ومن هنا ينبغي على مقتدى الصدر أن يقرر وبكل جلاء وبلا أية مواربة أو تدليس، إما الاستمرار في المشاركة في العملية السياسية القائمة وحل جيش المهدي ولعب دور سياسي أسوة بباقي القوى السياسية المتواجدة على الساحة، أو الاصطفاف إلى جانب أعداء الشعب العراقي من أمثال القاعدة وبقايا الصداميين الموغلة أيديهم بدماء الشعب والتكفيريين الطائفيين الذين أهدروا دماء الشعب العراقي وكفروه، ووفرو الأجواء المناسبة لانتعاش عصابات الجريمة المنظمة. ومن المعروف للقاصي والداني أن الكثير من عناصر ميليشيا جيش المهدي مارست نفس السلوكيات والممارسات البشعة وارتكبت الكثير من الجرائم بحق المواطنين وأوجدت محاكم ميدانية تحاكم الناس وتنفذ فيهم الأحكام الجائرة أقلها الإعدام، وبالتالي يتعين عليه تسليم قوائم باسماء هؤلاء المجرمين في تياره وميليشياته لتقديمهم للعدالة ومحاكمتهم على جرائمهم وعلى رأسها جريمة اغتيال وقتل رجل الديني المعتدل وإبن المرجع الديني السابق أبو القاسم الخوئي وهو السيد عبد المجيد الخوئي.


يعتقد الصدريون أنهم ضحايا اللعبة السياسية إذ تحاول القوى السياسية المشاركة في السلطة تقليم أظافرهم وتجريدهم من قوتهم المسلحة تمهيداً لإضعافهم إن لم نقل إقصائهم قبل الانتخابات المحلية في المحافظات في شهر أكتوبر المقبل، بسبب ما يتمتعون به حزب زعمهم من شعبية وجماهيرية في المناطق الشيعية المحرومة التي شكلت مناطق نفوذ منيعة لهم في الماضي بفصل خدماتهم الاجتماعية والصحية التي كانوا يقدمونها للسكان أيام مرجعية الشهيد الصدر الثاني وفي أواخر عمر النظام السابق الذي أهمل تلك الفئة من السكان وتركها تواجه مصيرها.وهذا يعني أن التيار الصدري حسب اعتقاد قياداته يعتبر نفسه منافساً خطيراً للقوى الشيعية الأخرى الممسكة بزمام السلطة السياسية حالياً كالمجلس الأعلى الإسلامي وحزب الدعوة، والمسألة بالنسبة لهم مصيرية تعتمد على نتائجها سيرورة الزعامة الشيعية.


لم تنقطع الاتصالات بين رئيس الحكومة والتيار الصدري وقد أوفد رئيس الوزراء بصورة غير رسمية وفدين إلى إيران للتباحث مع مقتدى الصدر ومع القيادة الإيرانية التي تدعمه وتمده بالمال والسلاح وتأويه في أراضيها لحمايته إلا أنه رفض مقابلة الوفد الثاني بقيادة خالد العطية نائب رئيس مجلس النواب وعضوية علي الأديب القيادي في حزب الدعوة والنائب في البرلمان وهادي العامري رئيس منظمة بدر والنائب في البرلمان أيضاً. وكان ضمن برنامج الوفد العراقي إطلاع القيادة الإيرانية على أدلة وقرائن عن تورط جيش القدس الإيراني في تدريب وتسليح وتوجيه ميليشيات مسلحة عراقية شيعية وسنية خارجة على القانون وعرض قوائم بأسماء شخصيات وقيادات وخرائط ومراكز أو معسكرات تدريب داخل إيران وعينات من الأسلحة الإيرانية الصنع التي ضبطت في ايدي الإرهابيين والميليشيات. ولم يحترم جيش المهدي اتفاق الهدنة الذي أبرم في 30 آذار تحت رعاية طهران لوقف الهجمات المسلحة. صحيح أن المواجهات المسلحة الشاملة في البصرة قد توقفت وعادت الحياة الطبيعية في المدينة إلى سابق عهدها قبل هيمنة الميليشيات المسلحة عليها قبل سنوات وعادت مظاهر إجتماعية كانت قد اختفت تحت تهديد السلاح والقتل ـ لاسيما قتل النساء غير المحجبات ـ مثل منع الحفلات والأعراس في الشوارع ومحلات بيع الموسيقى والأفلام السينمائية التي منعها جيش المهدي وأغلاق محلات بيعها كما أغلق المراكز الرياضية وصالونات الحلاقة لاسيما النسائية ومعاهد التجميل والترشيق الخ... بيد أن حملة الجيش العراقي وقوات الأمن العراقية والقوات الأمريكية المساندة لها ماتزال مستمرة بعد السيطرة التامة على البصرة وتحرير موانئها من سيطرة العصابات والمهربين. وكانت إيران وعلى لسان وزير خارجيتها منو شهر متقي قد أعلنت تاييدها للتحرك العسكري الحكومي في العراق ضد الميليشيات الخارجة على القانون ولكن هناك بون شاسع بين الموقف العلني والرسمي وواقع الحال الذي يدل على تدخل النظام الإيراني في الشؤون الداخلية العراقية بصورة تخريبية، وقد بدا هذا التدخل الإيراني واضحاً من خلال الهفوة الدبلوماسية التي ارتكبها السفير الإيراني في العراق السيد كاظمي عندما انتقد بشكل وقح أساليب الحكومة العراقية في معاملة التيار الصدري وذراعه المسلحة جيش المهدي ومحاصرة مدينة الصدر حيث اعتبرت الكثير من القوى السياسية هذا الموقف بمثابة تدخل سافر في الشؤون الداخلية العراقية من قبل دبلوماسي تجاوز صلاحياته وحدوده الوظيفية مما حدا بالبعض منهم المطالبة بطرده من العراق. والمعروفة أن مدينة الصدر صارت اليوم المعقل الأخير المنيع لجيش المهدي وهي تأوي آلاف العائلات الفقيرة والمعدمة التي هاجرت من قراها ومدنها وجاءت إلى بغداد بحثاً عن العمل وتأمين لقمة العيش الصعبة والمرة وهرباً من الجوع والبطالة، وهي مدينة مهملة وضعت على هامش المجتمع وحرمت من أبسط الخدمات العامة منذ أيام العهد الصدامي البائد إلى يوم الناس هذا ولم يدخل الفرح والبهجة والسعادة بيوتها منذ سنوات طويلة. ومن هذه المدينة المكتظة بالسكان تنطلق قذائف الهاون وصواريخ الكاتيوشا لقصف المنطقة الخضراء المحصنة التي باتت مقراً للسلطة، حكومة وبرلمان ورئاسة، ومقراً للسفارات الأجنبية المهمة كالسفارة الأمريكية والبريطانية. وقد حاول الجيش الأمريكي تفكيك تحصينات جيش المهدي داخل مدينة الصدر عن طريق رفع جدار اسمنتي حاجز يصل ارتفاعه إلى ثلاثة أمتار ليقسم المدينة إلى قمسين شمالي وجنوبي ليسهل السيطرة عليها ويشدد ويعزز من عمليات التفتيش عبر الحواجز الأمنية والقناصين لإحكام الطوق وتأمين عمليات التمشيط التي تقوم بها القوات الأمريكية والحكومية شبراً بعد شبر. وأمام عملية الحنق والحصار فكرت بعض قيادات جيش المهدي الميدانية اللجوء إلى العمليات الانتحارية أسوة بنظيراتها من القوى التكفيرية والظلامية من أمثال القاعدة مما يعني أن هذا التيار لايرغب ولا يريد التهدئة وترك الناس الأبرياء يتنفسون الصعداء بعد أن اصابهم التعب والإنهاك واليأس والمعاناة التي لاتحتمل وصار جلهم يتطلعون إلى من سينقذهم من هذا الكابوس حتى لو كان الشيطان نفسه.

نظرة من الداخل 3


د.جواد بشارة

بغداد
[email protected]