كان الأستاذ ( حسين ) مدعواً فى حفل هام لأنه صديق صاحب الحفل، وكان يعرف أن صديقه مهران ( صاحب الحفل ) رجلاً مشهوراً وذا ثروة ومال وسلطان ويتجمع حوله عدد هائل من أصحاب المال والثروة والسلطة لتقديم التهانى والهدايا فهم يعلمون وزنه جيداً وتأثيره فى أشياء كثيرة مصيرية تتعلق بأعمالهم التجارية ومشاريعهم ومكاسبهم.
إرتدى الأستاذ حسين أحلى ما عنده وهو بدلته الوحيدة التى يحتفظ بها لهذه المناسبات ولأنه يعرف تأثير المواصلات العامة عليها فقد آثر تأجير تاكسى حتى يحافظ على هندامه وبذلته بدون تكسير أو تعرجات يخرجه عن المألوف فى حفل سيضم الكبار والمشاهير وفى الطريق كان مشغولاً جداً فهذه المرة الأولى التى يستجيب فيها لدعاوى صديقه بحضور مثل تلك الحفلات، ثم إنه غير مؤهل للتخاطب مع هؤلاء القوم بلغتهم فهم ليس لهم غير لغة واحدة هى لغة المكسب والخسارة، والتحدث عن اشهر المليارديرات فى العالم وقصصهم الأسطورية وكيف جمع كل منهم ثروته.
لم ينس فى طريقه أنه أيضاً موظف كبير فى وزراة المواصلات وعلى درجة مدير عام، صحيح أن راتيه مع الحوافز تكفيه بصعوبة بالغة ولكنه كما يقولون مستور، يربى ابناءه الثلاثة فأحدهم فى الجامعة والثانى فى الثانوى والصغير فى الإعدادية، طبعاً هو حريص على تعليمهم أعلى المبادىء والقيم والمثل العليا وحريص على تذكيرهم دائماً بقراءة القرآن وإقام الصلوات الخمسة وهم طيبون مطيعون يعرفون لأبيهم وأمهم قدرهما ويكنان لهما كل الإحترام والتقدير.
لم يكن مشهوراً ولم يعرفه أحد من المدعوين للحفل غير صديقه الذى كان زميلاً قديماً له فى دراساته الثانوية والجامعية، ولكن هذا الزميل ( الثرى ) عرف طريقه منذ البداية فبدأ مرحلة التجارة والبزنس مذ كان طالباً بالجامعة حتى إذا حتى اتسعت تجارته وزادت ثروته وأصبحت العمارة التى كان يستأجر فيها شقة عمارته، وركب سيارة عادية تطورت مع الوقت إلى فارهة ثم استثمر أمواله بذكائه ودهائه وشطارته فتعرف على علية القوم وعمل لهم العزائم والولائم وقدم لهم الهدايا والتحايا فعملوا الواجبات وقدموا له العديد من التسهيلات حتى صار مليونيراً شهيراً ورجلاً من رجال الأعمال كبيراً.
أما هو فعاش محباً للعلم والثاقفة والقراءة والإطلاع عاشقاً لكل جديد فى عالم القصة والشعر والأدب الرفيع، كان يحفظ أسماء كبار ومشاهير الأدباء والمؤلفين والمفكرين وأنفق معظم ماله على شراء كتبهم وقصصهم وكان يسافر من محافظة إلى أخرى لحضور منتدى أدبى أو ندوة شعرية وكان يشارك فى بعض الأحيان ببعض إنتاجه الشعرى والأدبى،وحصل على بعض الجوائز التقديرية فى مسابقات أدبية تقدم لها.
وهكذا كانت كل تلك الأفكار تجول بخاطره ولكن ياترى هل يمكن أن يلتقى فى هذه الحفلة بمن يقدر علمه وأدبه وشعره وهواياته الثقافية؟ هل يمكن أن يقابل شخصاً مثله عاشقاً للقراءة والإطلاع والتعلم محباً للأدب والشعر والثقافة بكل أنواعها من تاريخ إلى فلسفة إلى كتابات دينية لمشاهير العلماء والكتاب والمفكرين..؟؟
دخل الحفلة بعد إتصال تليفونى بصديقه وهو خارج القصر المنيف فأرسل له صديقه من يستقبله ثم دخل القصر فاستقبله صديقه أحسن استقبال ودخل به الصالة الكبرى فى الحال فالتف حوله الأصدقاء معتقدين أنه ( بزنس مان) مثلهم وسيقدم خدماته لهم أو مسئولاً حكومياً يمكن إستمالته نحوهم والتأثير عليه بما يخدم مصلحتهم، فلما عرفهم عليه وعرفه عليهم وأدركوا فى الحال أنه مجرد موظف غلبان قليل الحيلة، لا يهش ولا ينش، إنفضوا عن مجلسه وتركوه وحيداً ينظر فى بهو المكان شريداً كأنه عصفور سقط فى ماء أو سمكة خرجت إلى الهواء، فجاءه الخادم ببعض الشراب والحلوى فأخذ منها قطعة صغيرة وتنفس الصعداء وقال رب نجنى من هذا البلاء.
وما هى إلا دقائق معدودة حتى دخل السيد المسئول صاحب الصيت والصولجان عظيم الكنه والشان فقام الجميع منتفضين والتفوا حوله مرحبين وتكاثرت عليه عبارات الترحاب وجاءه الخادم بأغلى أنواع الشراب ووقفوا جميعاً ينتظرون جلوسه لعلمهم الكامل بحجم فلوسه، ولما جلس وأشار لهم بالجلوس، جلسوا حوله بنفس محبوس، ثم انهالت عليه الكلمات الجميلة وعبارات التكريم بكل وسيلة حتى ينالوا منه نظرة أو كلمة أو لمحة قليلة، فعسى أن يأتى من وراء تلك النظرة توقيعاً، يجعل بضاعتهم فى السوق أكثر مبيعاً.
هذا وصاحبنا قد طواه النسيان وذهب فى خبر كان وتأكد أنه كان فعلاً الإنسان، قبل أن يحكم عليه حظه العاثر بدخول هذا المكان الذى افقده ثقته بنفسه وشعوره وحسه،حيث وجد نفسه فى ركن بعيد لا ينظر إليه أحد كأنه جرو أجرب، ولا يلقى أحد عليه التحية فكأنه بلوة أو رزية، وشعر أنه سقط فى بحر من السخرية ولم يعد يتمالك أعصابه فحتى صديقه الذى دعاه، لم يعد يتذكره وانشغل بكبار الزوار أصحاب المناصب والأموال، وحتى الخدم لم يعودوا يأبهوا به أو يقدموا له شيئاً من واجب الضيافة، فشعر أن هناك مؤامرة حيكت ضده بتدبير من صديقه مع الشيطان، وكأن صديقه يقول له ظز فيك وفى علمك وثقافتك، فها هو المجتمع يلفظك، ولا يهتم بك وعليك أن تجمع كل كتبك وكتاباتك وأشعارك ومؤلفاتك وتبلها وتشرب ميتها، وما هى إلا لحظات مرت كأنها الدهر وكاد يسقط مغشياً عليه، فتلمس الابواب وخرج منها خائفاً يترقب، كأنه لص سارق أو مجرم مارق، ولكن الله ستره فلم يسأله أحد عن سر مغادرته مبكراً دون أن يستأذن من صاحب القصر.
عاد إلى شقته ففتحت له زوجته وكانت تنتظره بلهفة ليحكى لها عن ليلة من ألف ليلة وليلة، فلما جاءها وقص عليها حكايته بكت بحرقة على ما تبعثر من كرامته، وقالت له خيب الله صديقك إنه عدو لدود ولا يعرف أنه سيأكله الدود، فتنهد الرجل كأنه يودع الحياة ثم نام نوماً عميقاً وألقت عليه زوجته اللحاف وقالت له مثلك يجب أن يخاف فأنت رجل مبادىء وقيم ومثل عليا، عشت شريفا وستموت شريفاً ولا تعرف من أين تؤكل الكتف كما عرف صديق عمرك ورفيق دربك، كانت تتكلم وهو فى سبات عميق لا يسمعها دخل فى نوم عميق فتركته حتى الصباح عسى أن يرتاح والهم عن قلبه ينزاح، ولما استيقظ من نومه شعر كأنه كان فى كابوس مخيف أو حلم كئيب سخيف، وتاب إلى الله وأناب وعرف أنه لو كان من أولى الالباب لرفض الذهاب ولكنه القدر والنصيب حتى يعلم أين يقف واين يعيش وكيف ينظر الناس للإنسان وما هى معايير تقييمهم له، فلا الرجولة ولا الشهامة ولا الكفاح ولا تربية الأبناء ولا خدمة البلد ثلاثين عاماً كل ذلك ليس له معيار والتقدير الوحيد يكمن فى كم المال الذى تملكه والسيارة التى تركبها والعمارات التى تملكها وملايينك فى البنوك ومناصبك الحكومية ودفاتر شيكاتك ولا عزاء للمثل العليا وقام الأستاذ حسين فتوضأ وصلى لله ركعتين وبعدها إستغفر مولاه وقال فى نفسه ما أسوأ هذه اللوحة المزيفة.
د.حسن أحمد عمر
كاتب وشاعر مصرى
عاشق الحب والسلام
التعليقات