كان المكان خاويا ً. ذهب الجميع للصلاة في الدهليز، ماعدا quot; فارس quot; الذي صعدت إلى الطابق أو الدور التاسع لمبنى الجريدة العريقة لغرض مقابلته. كان المحررمن النوع المسن والممتلىء الذي يصطلحون عليه في الغرب بـ quot; القنينة السمينة quot;، وكان يجلس في ركنه الضيق مستمتعا ً بقضم ساندويتش الفول. quot; مرحبا ً بك ِ في ركني quot; قال.
كان الركن بالغ الصغر حقا ً. تنتشر فيه القصاصات الصفراء والكتب ذات التغليف الرخيص. على الجدار، كانت ثمة صور مستنسخة لجمال عبد الناصر وأم كلثوم. عبد الناصر ملوحا ً بيده ndash; أتراه كان يخطب معلنا ً تأميما ً ما - وأم كلثوم تغني بنظارة سوداء قاتمة.
حشرت الزائرة نفسها في مقعد مخصص، حريصة على عدم إسقاط الأضابير المكدسة أو علب المربى والملح وغيرها من مستلزمات الأطعمة السريعة التي تمتلىء بها الرفوف خلفها.
quot; فارس quot; يعد من آخر الصحفيين في العالم ممن لاتزال المحابر التقليدية موجودة على مكاتبهم، وممن مازالت أصابعهم تحمل آثار أحبارها الزرقاء والسوداء. عمره خمسة وسبعون عاما ً على الاقل، وهو يعمل منذ شبابه في الجريدة المغرقة في القدم - أسسها اللبنانيان تقلا العام 1875 وصادرها التأميم في الستينات ndash; quot; فارس quot; تقول هي : شهادة حية على أن الموظفين المصريين محسودون على أمنهم الوظيفي رغم رواتبهم الزهيدة.
ألـّف المحرر المخضرم، حتى الآن، خمسة عشر كتابا ً حول الصحافة quot; وهذا هو السادس عشر quot; قال ذلك وهو يربـّت على مظروف ضخم.
أرادت الشروع في تدوين ملاحظاتها، لكنها ماإن حاولت الاستقرار في مقعدها الذي حجز له بالكاد مكانا ً في الركن الضيق، حتى سقط قلمها من يدها.
كان قلما ً فاخرا ً من ذلك النوع الذي لم تكن تأخذه معها إلى العمل عادة ً. عندما كانت تحاول العثور عليه كانت تشعر بأنها بحاجة إلى بهلوان حقيقي للبحث عنه في تلك الفوضى. نظرت بيأس إلى quot; فارس quot; قصير القامة والقريب تكوينيا ً من الأرض علـّه يسعفها بفكرة ما للعثور عن القلم الضائع، لكن هيهات! فمن أين لمسن ٍّ أهلكته الصحافة وسرق الزمن الخؤون بريق عينيه أن يقوى على التحديق في أية بقعة، بحثا ً عن قلم تائه!
تخلت عن فكرة العثور على قلمها، واستدارت إليه لتكمل القصة معه.
لم يكن يعرف الشيء الكثير عن موضوع بحثها (( إستخدام التصوير في بطاقات الهوية الشخصية بمصر مطلع القرن العشرين )) لكنه أراها، بجذل، شارة ً مؤلفة من قطعة كرتون تحمل صورة نصفية لجده. كانت الشارة ( أو إن شئت الباج ) تستعمل لركوب القطارات في القاهرة منذ قرن مضى.
quot; من أنت يافارس ؟ quot;
-جلست إلى مكتبي هذا العام 1960 ndash; عندما تم تأميم الصحافة المصرية وخضعت محتويات الصحف للرقابة الحكومية، للمرة الأولى، منذ نشأة هذه الصحف في عشرينات القرن التاسع عشر. كانت صحافتنا ndash; يقول ndash; بين مدٍّ وجزر. فحينا ً كان قراؤها عالميين متميزين، وآخر لم يكن يطالعها سوى الزعماء البيروقراطيين المصريين.
-وماذا جرى بعد التأميم ؟
-كنا نتقاضى مرتـّبات لقاء استجلاء الأمور وكشفها للقراء، أما اليوم، فكلما كان مانعرفه أقل كان أفضل!
طلب منها أن تعثر له على صندوق ما، وراءها على الرف. كرّر عدة مرات :
-صندوق الشـَّفـَر.. صندوق الشـَّفــَر!
فهمت، أنه كان يقصد صندوق قلم quot; الشيفر quot;. بالمناسبة : قلمها الذي ضاع في زحمة القصاصات والجرائد على أرض مكتبه، كان quot; شيفرا ً quot; أيضا ً!
وأخيرا ً وجدته. ليس قلمها، بل الصندوق الذي طلبه. سألها عما إذا كانت تستطيع وضع quot; هذا القلم quot; فيه. كان القلم قديما ً جدا ً. يبدو وكأنه منتـَج في العصر السوفياتي. قال إنه هدية لزميل ٍ شاب يتمرّن لديه. كان الصندوق ملفوفا ً بشرائط أكل الدهر عليها وشرب وذهب إلى الحمـّام ثم نام!
وضعت القلم في الصندوق ذي اللون الشاحب، واغلقته وأعادته إليه. عندذاك دلف الزميل الشاب إلى الركن الفوضوي.
-هذه هي هديتك ياعزيزي! باغته quot; فارس quot;. تسلـّم الزميل الشاب الصندوق المتهالك من رئيسه المبجـّل. لاحظت الزائرة أن تعبير وجه الزميل الشاب تحوّل ndash; خلال فتح الصندوق المهترىء ndash; من التوقـُّع المقموع والمحبـَط إلى الانتظار غير اليائس! بدت تقاسيم وجهه وكأنها تشي ببعض ِ تهكـُّم أو تجاهل! أو هي هزّة رأس غير محسوسة تنبىء عن شيءٍ من الحسرة والأسى!
هل كان يتمتم مع نفسه، من دون أن يسمعه أحد، بأن حياته وحياة رئيسه الصحفي الخبير لا تساوي شيئا ً أكثر من قلم صدىء من حقبة بريجنيف وكويسيجين وبودغورني ؟
-أعجبك ؟ سأل quot; فارس quot;.
-أنا بحاجة إليه! أجاب الزميل الشاب مجاملا ً على الطريقة المصرية!
تركت الزائرة quot; فارس quot; مع quot; شيفر quot; آخر أفضل، على مكان ما من أرضية ركنه، كإسهامة منها لدفع مسيرة الصحافة المصرية إلى أمام!
في طريق عودتها إلى البيت، رأت أكوام الكتب وهي تـُكـَدَّس على الأرض. كان الرجال يبيعونها لقاء خمسة عشر قرشا ً للكتاب.
-لماذا هي رخيصة إلى هذا الحد ؟ سألت بائعا ً منهم.
-نشتريها بالكيلوات.
*** الزائرة quot; ماريا گوليا quot; محررة عروض كتب الشرق الأوسط في الملحق الأدبي لجريدة quot; التايمس quot; البريطانية. وهي أيضا ً مؤلفة كتاب quot; القاهرة مدينة الرمال quot;. والنص ّ المعرَّب هنا بتصرُّف، نـُشر في عدد آب ( أغسطس ) القادم لمجلة quot; نيو إنترناشيوناليست quot;.
علاء الزيدي
[email protected]
www.elaphblog.com/alzeidi
التعليقات