منذ ان وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، تغير الأعتقاد تجاه قواعد القانون الدولي وأصبح لا يقتصر على تنظيم العلاقات بين الدول وانما صار يشمل الأفراد ايضا وهو تطور مهم يصب في ميدان حماية حقوق الأنسان. وعلى صعيد حماية حقوق المجموعات الأثنية و الدينية و المذهبية الصغيرة عقدت إتفاقيات دولية لحماية حقوقها من الضرر لضمان التعايش بين كل القوميات واتباع الديانات لتحقيق السلام بمنع الأضطهاد او اساءة معاملتها او ممارسة الكراهية ضد الأشخاص. واذا كانت بعض الدول وافقت على الأنضمام لهذه المعاهدات فأن دولا اخرى لم تنضم اليها ولم توقع على مثل هذه المعاهدات ومنها العراق الذي علقت عضوية إنضمامه الى عصبة الأمم المتحدة على إصدار إعلان صريح عنه يضمن حقوق القوميات المختلفة واتباع الديانات الأخرى.
ولكن بعد صدور ميثاق الأمم المتحدة جرى التشديد على حماية حقوق الأنسان ومنع ممارسة اي تمييز بين البشر، ورغم توقيع العديد من الأتفاقيات الدولية المعززة لحقوق الأنسان، غير ان هذا كله لم يمنع من ممارسة الدول للأضطهاد الديني والقومي والمذهبي ودارت حروب عنيفة وقاسية في العديد من بقاع الأرض إهدرت خلالها حقوق الانسان وأرتكبت جرائم ضد الأنسانية ومنها كثير من المذابح وجرائم إبادة للجنس البشري جلبت الكوارث على البشرية.
ولمنع جريمة الأضطهاد فقد أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة ولجنة حقوق الانسان إعلانات متعددة تمنع التمييز ضد المرأة وضد أصحاب الحاجات الخاصة ( المعاقون جسديا ) وإعلانات اخرى تخص منع التمييز على أساس العنصر وأخر يخص اللجوء السياسي واصبحت حماية حقوق الانسان على مستوى أوربا أفضل من غيرها من البلدان الأخرى بسبب الأتفاقيات الضامنة لهذه الحقوق ومحاسبة من ينتهكها وبفعل الأنظمة السياسية الديمقراطية التي فتحت الأبواب للحقوق المتساوية بين الجميع وضمنت للقانون دوره وسيادته في الدولة والمجتمع.حيث ان هذه الدول تؤمن بأن الديمقراطية لا يمكن ان تبنى دون تعايش وتسامح بين الجميع ووفقا للأحترام القائم على الأعتراف بالأخر وعلى التنفيذ الطوعي للقانون من الحاكم والمحكوم.
والواقع ان أصل موضوع جريمة الأضطهاد الذي نحن بصدد الحديث عنه يرتبط بقضية إحترام حقوق الأقليات القومية والدينية والمذهبية حيث بذلت جهودا دولية كبيرة من الأمم المتحدة من خلال إبرام العديد من الأتفاقيات الدولية لحماية الأقليات من اي تمييز او اضطهاد او سوء في المعاملة، غير ان حمايتها داخل الدولة ربما يصطدم بمبدأ تفكك الوحدة الديمغرافية بسبب تتواجد اكثر من قومية على الأرض ومثل ذلك العراق حيث يوجد أغلبية عربية وقوميات كوردية وتركمانية وكلدانية واشورية مما يوجب تمثيل كل هذه القوميات بصورة عادلة في السلطة وفي استحقاقها للثروة لأن الديمقراطية تعني مشاركة الجميع وبصورة متساوية في السلطة وفي التوزيع العادل للثروة. هذا بالأضافة الى ان العراق يتمييز بوجود تعددية دينية ومذهبية يجب إحترامها وتطهير بعضها من مظاهر العنف عند ممارسة شعائرها لأن ممارسة الشعائر بطريق سلمي هو حق مشروع وأما ممارسة الشعائر بطريق تبدو فيها مظاهر العنف فهو غير مشروع.
وعلى الرغم من عدم وجود تعريف جامع ومانع لمفهوم الأضطهاد تقبل به جميع الدول، بسبب تباين الأراء واختلاف الأجتهادات حول مفهومه، إلا انه يمكننا القول بوجه عام بأن الأضطهاد يعني إساءه المعاملة سواء بممارسة التمييز العرقي أو الديني او المذهبي او حتى بسبب اللون او الشكل او الأصل، ولهذا السبب يعد الأضطهاد جريمة و ضمن نطاق الجرائم ضد الأنسانية لأنها ممارسة للكراهية التي تحرمها قواعد الأعلان العالمي لحقوق الانسان وفقا للمادتين (1 و2 ) منه، وطبقا للمادة (2 ) من إتفاقية جنيف لحماية اللأجئين لعام 1951 المعدلة ببروتوكول عام 1967 وفي نص المادة (7) من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية ( نظام روما لعام 1998 ) التي أعتبرت الأضطهاد من صنف الجرائم ضد الأنسانية المعاقب عليها دوليا حيث ورد في الفقرة ح مايلي : (( اضطهاد أية جماعة محددة أو مجموع محدد من السكان لأسباب سياسية أو عرفية أو قومية أو إثنية أو ثقافية أو دينية، أو متعلقة بنوع الجنس على النحو المعرف في الفقرة 3، أو لأسباب أخرى من المسلم عالمياً بأن القانون الدولي لا يجيزها، وذلك فيما يتصل بأي فعل مشار إليه في هذه الفقرة أو أية جريمة تدخل في اختصاص المحكمة )) ثم بينت الفقرة (ز) مفهوم الأضطهاد هنا بقولها : (( يعني quot; الاضطهاد quot; حرمان جماعة من السكان أو مجموع السكان حرماناً متعمداً وشديداً من الحقوق الأساسية بما يخالف القانون الدولي، وذلك بسبب هوية الجماعة أو المجموع )).
يتضح من ذلك بأن جريمة الأضطهاد تقوم على اساس وجود دافع التمييز بين البشر والحط من قيمة الأخر ويبدو ان كثيرا من الدول لم تنص على تجريم او تحريم هذا التمييز والعقاب علي من يمارسه ولان هناك العديد من الدول لم تجعل من الأعلان العالمي لحقوق الانسان صفة إلزامية، بينما الأمر مختلف تماما في دول اوربا وامريكا حيث يعاقب الشخص وفقا للقانون اذا ارتكب فعلا او مارس سلوكا يقوم على سياسية التمييز بين البشر بسبب اللون او الاصل او المعتقد الديني او المذهبي او اطلق عبارات تسئ او تنقص من قيمة الشخص الاجتماعية أو حرمانهم من حقوقهم الثقافية او أية حقوق دستورية أو قانونية، بل ان خطورة هذه الجريمة قد تصل الى درجة الجناية الكبرى حين يمارس التكفير او يفتى به ضد أتباع ديانة معينة او مذهب معين او جماعة معينة وهو ما حصل في العراق بعد سقوط النظام الدكتاتوري عام 2003 من الأرهابيين ومن اتباع النظام السابق، لأن التكفير جريمة عمدية في مرتبة الجناية يستحق الفاعل والشريك ومن افتى بالتكفير العقاب وفقا للقانون.
و إلاضطهاد يعني، الى جانب الحرمان من هذه الحقوق الثابتة للأنسان، الكراهية للأخر، لأن الكره هو نقيض الحب، ومن لم يحب شخصا ما او أمرا يعني - من الناحية اللغوية - من لم يستطع تحمل الشخص او هذا الامر ولم يطقه لأنه يحمل المقت له والنفور والاشمئزاز منه وهذه الكراهية بين بني البشر تصطدم بالدستور والقانون وبالقيم الأنسانية التي يجب ان تسود من أجل السلام الذي هو قانون الحياة. ومن هنا فأن الكراهية هي الازدراء والبغضاء فان جرت ضد انسان ما بسبب لونه او عرقه او دينه او مذهبه عدت انتهاكا لحقوق الانسان.
وأيا كان الشخص الذي يسئ معاملة الأخر وسواء وقع الأضطهاد بين الأفراد انفسهم أم وقع من مؤسسات الدولة فان المتضرر يحق له إقامة الدعوى لغرض المطالبة بمعاقبة الفاعل والتعويض عن الضرر الذي لحق به. وهذا التعويض قد يكون ماديا او معنويا وغايته اصلاح الأذى الذي اصاب المتضرر فضلا عن العقاب.
وفي العراق جرت ابشع الممارسات لجرائم الكراهية من حكم صدام ضد الشيعة حين رفعت شعارات وممارسات تشكل جرائم ضد الأنسانية منها مثلا شعار ( لا شيعة بعد اليوم ) عام 1991عقب إنهيار الأنتفاضة ضد النظام الدكتاتوري، وجرت ممارسات في سوء المعاملة ضد الكورد منذ وصول البعث للسلطة عام 1963 كشفت عن الحقد والكراهية التي لا تجيزها الشرائع الوضعية ولا الدينية وانتهت بالمذابح وبجرائم الأبادة الفعلية للجنس البشري وقد صدر قرار رقم 26 لسنة 2008 من مجلس الرئاسة في العراق ( تنفيذا لقرار مجلس النواب ) يعتبر ان ما تعرض الشعب الكوردي في كردستان العراق من مذابح وقتل جماعي هو ابادة جماعية بكل المقاييس، كما ان ممارسة الأضطهاد ضد الأيزيدية والبهائية والصابئة المندائية واتباع الديانات اليهودية والمسيحية تدخل ضمن نطاق الجرائم ضد الأنسانية ايضا التي حرمتها المواد ( 1 و2 ) من الأعلان العالمي لحقوق الأنسان وفقرات المادة (7) من نظام روما الأساسي فضلا عن اتفاقية عام 1951 الخاصة بشؤون اللأجئين والبروتوكول الملحق بها لعام 1967سالف الذكر ايضا. كما إرتكبت أبشع الجرائم التي تكشف عن الكراهية بعد سقوط النظام الدكتاتوري من المتطرفين قوميا ودينيا وفكريا ولم يمنع هؤلاء من إيقاف هذه الجرائم رغم وجود قانون الأرهاب الذي صدر عام 2005 مما يوجب تفعيل القانون ومحاسبة دقيقة لهؤلاء.
ولعل أوضح صورة لجريمة الأضطهاد تجميد أموال اليهود العراقيين بسبب دينهم وكذلك إبعاد الكورد الفيلية خارج العراق ومصادرة أموالهم المنقولة وغير المنقولة بسبب كونهم من الكورد الشيعة وممارسات التمييز ضد الشيعة العرب والكورد في العراق والذي تمثل بعدم وجود حقوق متساوية لهم مع الأخرين بالنسبة لتولي الوظائف والمناصب العامة وحق التملك والسكن وغيرها من الحقوق وهو ما حصل فعلا خلال فترات مختلفة من تاريخ الدولة العراقية.
لا تقوم جريمة الأضطهاد الا بتوفر إركانها الثلاث (شرعي ومادي ومعنوي )، ففي القانون الدولي والأتفاقيات الدولية والقوانين الوطنية توجد نصوص تحرم الأضطهاد وسوء المعاملة والسب والأهانة وتجريح الشخص او الجماعة او نشر البغضاء والنعرات التي تؤجج الكراهية وتثير الفرقة بين البشر او ابناء الوطن الواحد او اية افعال او سلوك يمس بالشعور الديني، وهذه النصوص التي تجرم هذه الأفعال تمثل الركن الشرعي او الأساس للتجريم والمعاقبة.
أما الركن المادي لهذه الجريمة فالمقصود به هي الأفعال التي تمارس ضد الشخص من الدولة او احدى مؤسساتها او من شخص اخر بقصد الحط من القيمة او المساس بالشعور او تجريح الشخص أي إساءة معاملته والتعبير عن الكراهية ضده، وهي كلها افعال غير انسانية. والفعل من الناحية القانونية هو كل تصرف جرمه القانون سواء أكان ايجابيا أو سلبيا كالترك والامتناع مالم يرد نص على خلاف ذلك، لأن الجريمة قد تقع بعمل ايجابي او بفعل سلبي يتمثل بالموقف السلبي كترك الشخص بدون علاج او مساعدة طبية. ومن هنا فان جريمة الأضطهاد تتمثل بوجود انكار واضح وعلى اسس تمييزية لحق اساسي من حقوق الأنسان وهذه الحقوق صارت معروفة في مبادئ الأعلان العالمي لحقوق الانسان وبخاصة حق التمتع المتساوي بالحقوق وفرص العمل.
أما الركن المعنوي، فيراد به وجود القصد الجنائي أي ارادة الفعل والنتيجة معا، فضلا عن توفر الدافع لهذا الفعل، أي إن اساءة المعاملة تكون مقصودة ضد شخص معين او جماعة معينة بسبب اللون أو اللباس أو القومية أو الدين أو المذهب أو حتى الأسم. وما من شك ان جريمة الأضطهاد قد تكون بدرجة خطيرة أي تشكل جناية عمدية مثل المذابح و ابادة الجنس البشري، وقد لا يتوفر القصد الجنائي فيها وتكون في مرتبة الجنحة او المخالفة. ومن هنا فان ممارسة الأضطهاد قد يقع مع جريمة اخرى مقترنه بها وقد تقوم الممارسة لوحدها.
منذر الفضل
[email protected]
Stockholm
التعليقات