العراق وسوريا

فى اليوم الرابع عشر من تموز من عام 1958، كان مرور السيارات قد توقف فى الكثير من الشوارع التى تؤدى الى مركز العاصمة وبضمنها شارع دمشق، واضطررت الى قطع المسافة الطويلة من بيتى الى شارع الرشيد مشيا على الأقدام. كان قصر الرحاب الذى قد احتله الجيش وأطلق النار على سكانه فى طريقى فدفعنى الفضول الى الدخول الى حديقة القصر ولم يمنع الجنود أحدا من الدخول

الحلقة الأولى

اليها، فدخلت مع الداخلين. لم أدخل الى بناية القصر نفسه لأن الدخول اليه كان ممنوعا فاكتفيت بالتجول فى الحديقة التى كانت تغطيها الأنقاض من كل الأشكال والألوان. لفت نظرى قصاصة ورق زرقاء مطوية بعناية فوق كومة من الأنقاض، فالتقطتها وفتحتها، وكانت مكتوبة باللغة الانكليزية. لا أذكر كلماتها بالضبط، ولكنها كانت على ما أظن مسودة رسالة أو مذكرة، ولكنها لم تكن مؤرخة و لم تذكر أسماء أشخاص، وقد جاء فيها ما معناه : ( يجب تغيير الحكم فى سورية بأي ثمن كان ).

أسرعت الى أحد ضباط المكلفين بحراسة القصر وسلمته الورقة وطلبت منه تسليمها الى الضابط المسئول ndash;وأظن انه رماها على الأرض لعدم فهمه لمحتواها-. ومضت أيام قبل أن أدرك ان الحكومة العراقية كانت فى سبيل تغيير الحكم فى سورية، و يظهر أن الورقة كانت قد كتبت قبل انضمام سورية الى مصر التى ألتى أعلن عنها فى اليوم الأول من شباط/فبراير 1958 ووقعها شكرى القوتلى عن الجانب السوري.

عبد الإله وسورية

كان الأمير عبد الإله ولي عهد الملك فيصل الثاني يتوق الى ان يصبح ملكا على سورية، وبدا ذلك واضحا بعد تتويج الملك فيصل الثاني وزوال صفة الوصاية عنه. وكانت العائلة المالكة تشاركه فى هذا الرأي وتؤيده. كما كان نورى السعيد يسعى جهده لانجاح هذه الفكرة خاصة بعد تعدد الانقلابات فى سورية التى قد تؤدى الى نتائج تضر بمصالح العراق الذى يحتاج الى منفذ الى البحر الأبيض المتوسط لتصدير نفطه. وكان العراق يصدر نفطه عن طريق ميناء حيفا فى فلسطين، واضطر الى ايقاف تصديره عن هذا الطريق بسبب ضغط الرأي العام العربي بعد قيام اسرائيل فى سنة 1948، وسبب ذلك ضررا فادحا بالخزينة العراقية. واتجهت الأنظار الى ميناء بانياس السوري.

عبد الناصر وسورية

خرج آخر جندي فرنسي من سورية فى نيسان 1946، وفى آب من نفس السنة طالب الملك عبد الله بن الشريف حسين ملك شرق الأردن بتنفيذ مشروع (سوريا الكبرى)، ولم يستجب أحدا لندائه. ودخلت جيوش سبع دول عربية الحرب مع الدولة العبرية حال تأسيسها فى سنة 1948، ولم تحصد غير الهزائم على كل الجبهات، واعلنت الهدنة. وقيل فى وقتها أن الحرب ونتائجها كان مخطط لها مسبقا.

قام حسنى الزعيم بأول انقلاب عسكري فى سورية فى سنة 1949 وتبع ذلك عدة انقلابات. وفى عام 1952 قام عبد الناصر بانقلاب على الملك فاروق، وبعد أن وطد أمره فى مصر التفت الى البلدان العربية وتهجم على حكامها متهما اياهم بخيانة القضية الفلسطينية ومنها العراق. ثم بدأ بتهديد اسرائيل، وانحاز الى الكتلة الاشتراكية التى قامت بتزويده بالسلاح مقابل القطن المصري، مستفزا بذلك الغرب خاصة بعد تأميمه قناة السويس فى تموز/يوليو 1956 معتمدا على تأييد الاتحاد السوفييتي.

حرب عام 1956

شنت اسرائيل هجومها يوم 29 تشرين الأول/اكتوبر 56 واجتاحت سيناء بعد ان احتلت قطاع غزة وشرم الشيخ، ووصلت القناة، وقامت قوات بريطانيا وفرنسا بتدمير الطيران الحربي المصري وانزلت جنودها فى بورسعيد واتجهت الى القاهرة، وفى الوقت نفسه دمرت الطائرات الاسرائيلية الطائرات الأردنية والسورية والعراقية وهي جاثمة فى مطاراتها. وهدد الاتحاد السوفييتى الذى كان منشغلا فى اخماد الثورة فى هنغاريا بالتدخل. أما الولايات المتحدة فقد كانت حانقة على اسرائيل لعدم اعلامها مسبقا بنواياها بالهجوم على مصر، فطالبت الدول الثلاث بايقاف القتال، وتوقف القتال بعد اسبوع من نشوبه، وأرسلت الأمم المتحدة قواتها لتقف حاجزا بين اسرائيل ومصر، وبقيت هناك لحين أمر عبد الناصر بسحبها قبيل نشوب حرب 1967.

احتفل عبد الناصر بذلك (النصر!!)، وقام بتأجيج مشاعر العرب بدعوته الى الوحدة بين الدول العربية تحت زعامته. ونجح باعلان الوحدة بين سوريا ومصر فى شباط/فبراير 1958، ولم تكن وحدة مدروسة بل كانت عاطفية محضة، وأصبحت سورية (الاقليم الشمالي) للجمهورية العربية المتحدة برئاسة عبد الناصر وينوب عنه المشيرعبد الحكيم عامر فى سورية. وأخذت الخلافات تشتد بين ناصر والبعثيين السوريين، وشدد عبد الناصر من دعاياته ضد الحكم الملكي فى العراق وسانده القوميون والشيوعيون، مما مهد السبيل الى قيام الثورة العراقية فى تموز/يوليو 1958.

الزعيم عبد الكريم قاسم والتدخل المصري

كان الشعبان العراقي والسوري يتوقان للاتحاد فيما بينهما، ولكن سقوط الملكية فى مصرعام 1952 ومجيء عبد الناصر الى الحكم عرقلا أي اتحاد بين البلدين. فقد كان الحكم فى العراق ملكيا ممالئا للغرب، بينما أعلن عبد الناصر عن عدائه للغرب وتقاربه مع الاتحاد السوفييتي، وبدأ يدعو للوحدة العربية التى وجدت لها صدى كبيرا فى العالم العربي، وفى الوقت نفسه سبب فى الاسراع بقيام ثورة 14 تموز/يوليو 1958 فى العراق بقيادة الزعيم الركن عبد الكريم قاسم. كان البكباشي (مقدم) جمال عبد الناصر منتشيا بضم سوريا الى مصر قبل خمسة أشهرفقط من ثورة العراق، فأسرع للاتصال بالحكومة العراقية طالبا اعلان الوحدة الفورية، فرفض الزعيم عبد الكريم قاسم قائلا ان العراق ليس ملكا له ليقرر مصيره، وانما القرار متروك للشعب العراقي. وبدأت حرب الدعاية وتبادل الشتائم من الاذاعات بين البلدين، وكان ناصر سليط اللسان فلم يترك فرصة تمر دون أن ينال من الزعيم مستعملا عبارات فجة وبذيئة، ولم يرد الزعيم عليه مطلقا. وكان أحمد سعيد أبرز المذيعين المصريين فى (صوت العرب) يسب الزعيم ويحرض الشعب العراقي ضده فى كل يوم وبدون انقطاع. وقد ضحك عليه بعض العراقيين حينما أرسلوا له خبرا ملفقا يفيد بأن المناضل عباس بيزه والمناضله حسنه ملص (وهما فى الواقع يشتغلان بتجارة الجنس) بأنهما قادا مظاهرة كبرى فى بغداد ضد الزعيم. وأحمد سعيد هو الذى زف بشرى انتصار الجيش المصري على اسرائيل فى صباح اليوم الأول من نشوب القتال حيث قال (وقد سمعته بنفسي) : ان الطائرات الصهيونية تتساقط كالذباب!. بينما الواقع كما اتضح فيما بعد هو أن الطائرات الصهيونية دمرت الطائرات المصرية وهى جاثمة فى المطار، وما سلم منها هربه ناصر الى السعودية. وهذا عين ما فعله صدام حسين عندما هرب طائراته الى ايران بعد غزوه الكويت سنة 90/91، وهذا من الأمور المضحكة المبكية التى لم تحل طلاسمها الى يومنا هذا.

يتبع

عاطف العزي

http://www.elaph.com/Web/AsdaElaph/2009/1/397013.htmرابط الحلقة الأولى