عبد الكريم وفي العراق خصاصةٌ ليدٍ وقد كنتَ الكريمَ المحسنا
الشاعر محمد مهدي الجواهري

إن الشهيد عبد الكريم قاسم يعتبر حقا أب العراق الحديث ليس فقط لأنه ورفاقه البررة أعلنوا يوم الرابع عشر من تموز من عام 1958 النظام الجمهوري في العراق لا بل لأنه بقى ومنذ خمسون عاما خالدا في الذاكرة العراقية وشخصية عالمية دخلت كتب التاريخ لنزاهته وحبه لوطنه وإنسانه المعذب ونموذجا تاريخيا فذا لشهيد في درب الكفاح من اجل بناء مجتمع العدل والتسامح والأمن الاجتماعيين حيث تكالبت عليه قوى الفكر القومي داخليا وخارجيا لينالوا منه وبسرعة قبل أن يكمل مشروعه الحضاري وحلمه العراقي الأصيل.


لا توجد فترة تاريخية في حياة الشعب العراقي الأكثر إبداعا وإنتاجا من فترة حكم الزعيم قاسم فقد ترك أبناء العراق ممن عاصروا تلك الفترة تراثا إنتاجيا فكريا، أدبيا،علميا وفنيا انعكس ولحد يومنا هذا على مجمل الحركة التطورية للمجتمع العراقي ألتعددي. هذا الإنتاج الفكري الإنساني وانعكاساته لا يزال يمثل القاسم المشترك الأعلى لعصارة الإنتاج الإبداعي لإنسان الرافدين بعد الحرب العالمية الثانية. بطبيعة الحال ان الفكر الثوري وما خلفته من نتائج لا يمكن تحليله انطلاقا من التجربة العراقية فالعراق آنذاك جزء من لوحة فكرية عالمية تجرى على رحاها تطبيقات فكرية غيرت مجرى التاريخ. لذا نرى بان أي تحليل واقعي لحوادث ومجريات الأمور خلال فترة حكم الزعيم الراحل يجب ان يجري من خلال مشاهدة فوقية لصورة العالم والساحة الفكرية العالمية والعربية بصورة خاصة. ان زيادة سلطة العسكر وتدخلها في الحكم والأجهزة التشريعية والتنفيذية كانت مقبولة في تلك الفترة ليست في العراق فحسب بل في جميع أنظمة دول العالم اجمع.

أما الصراع الفكري بين الفكر القومي و الاقومي من جهة وصراع الفكري بين الفكر التحديثي او ما يسمى ب العلمانية بجميع تياراته والفكر الديني صراع أزلي مليئ بالتناقض في فترات تاريخية يطفو احد تلك التيارات الفكرية على سطح الفكر السياسي العالمي ثم تخبو تاركة ورائها من ينتقدها أو من يذكرها بسوء وآخرين مداحين. هذا الصراع وجد أرضية خصبة لها في العراق إبان تلك الفترة التاريخية الحرجة من حياة العراق والعراقيين. فالتيار الديني كان قد تبلور بصورة واضحة خاصة التيار الشيعي حيث مركز الديني للشيعة في الحوزة النجفية الشريفة وآلاف المقلدين الذين يرون في النجف مركزا إسلاميا يرقد فيه الإمام علي رضي الله عنه حامل راية الشهادة وشهيد كربلاء الإمام حسين رضي الله عنه وآل بيته الكرام.


كان التيار الديني الشيعي يتمركز فكريا في صراعه على مقومة الفكر اليساري القادم من الشرق وقد انبرى معظم علماء الدين في خطابهم الديني السياسي الى مواجهة ما كان يسمى ب المد الأحمر.


هذا الصراع تمكن الحركات السياسية القومية من تخطيها وذلك بتطعيم الفكر القومي بأفكار اشتراكية منذ تأسيس الحزب النازي الألماني والفاشي في ايطاليا واليونان واسبانيا ومن ثم تم في الشرق حيث تم استنساخها فكريا وهيكليا وتطعيمها بالفكر القومي لشعوب الشرق تارة وتارة أخرى أضيف لها وطعم بالفكر الإسلامي وبطريقة يبقي على الخط العلماني، رغم عداها الواضح للشيوعية، كي تظهر بثوب جديد غير متناقض كما فعل الاتحاد الاشتراكي العربي في مصر و حزب البعث العربي الاشتراكي وحزب الحركة القومية في تركيا وأحزاب اشتراكية اخرى.

في ضل هذه اللوحة الفكرية المتناقضة كان على الزعيم العراقي قاسم حكم دولة تعدية القوميات والطوائف والعقائد والتوفيق بين كل تلك التناقضات كي يصل الى تحقيق حلمه الحضاري ولكن الصراع الفكري تحول الى صراع دموي بتدخل القوى الخارجية ووجود المغامرين في الداخل والمتربصين في الخارج فكانت نهاية مأسوية لزعيم الفقراء.
لنتذكر اليوم جميع شهداء العراق وفي كل العهود بإجلال واحترام بعد مرور خمسون عاما على تأسيس الجمهورية العراقية.

توفيق آلتونجي
السويد