يمجد الكثيرون بالحكم الملكي الذى سبق ثورة 14 تموز 1958 ونسوا كم كانوا يتلهفون اليها بسبب المآسي التى حلت بالعراق والعراقيين، بعد الانقلاب البعثي الدموي الذى أطاح بقائدها الراحل الزعيم عبد الكريم قاسم.
أذكر جيدا ما حدث فى صباح يوم الثورة، وقد كنت شابا فى مقتبل حياتى العملية، و كنت قد بدأت فى تلك الساعة أتناول وجبة الافطار عندما سمعت أخبارها بالمذياع، فأصابتنى كآبة شديدة فقد تخيلت ما قد تحدث من معارك بين العراقيين الذين لم يحصل ان اتفقوا على شيء الا على ان لا يتفقوا. كنت فى وقتها أسكن ضاحية البياع جنوب غربي بغداد، وقررت الذهاب الى مكتبى التجاري فى شارع الرشيد. فوجدت الطرق مقطوعة فقررت الذهاب مشيا على الأقدام.
وصلت الى معسكر الوشاش (منتزه الزوراء حاليا) فوجدت الطريق يغص بالجنود الذين كانوا يرتدون بدلة العمل الزرقاء، ووصلت فى نفس الوقت الذى وصلت اليه سيارة لاند روفر عسكرية يقودها جندي عراقي والى جانبه جندي آخر بيده رشاشة، وعلى المقعد الخلفي من السيارة سجادة منتفخة. ولشدة الازدحام فقد توقفت السيارة على بعد مترين أو ثلاثة منى على باب المعسكر، ومد أحد الجنود خارج السيارة يده وجذب السجادة وهو يتساءل: ماذا بداخلها؟ وجذبها ليظهرخلفها شخص غربي (ربما كان بريطانيا) وقد بدا عليه الرعب الشديد، فصرخ الجندي : هذا جاسوس انكليزي!! وبدأ يسحبه من السيارة بالرغم من توسلات السائق والجندي المسلح وانقض عليه باقى الجنود وهو يقاوم يمنة ويسرى دون جدوى ولم تمضي دقائق حتى كان جسده قد تمزق، وقلبوا السيارة واشعلوا فيها النار.
قررت العودة الى داري لسماع الأخبار والبيانات من الراديو، كما كان يفعل ملايين العراقيين فى تلك الساعة. ومن ضمن البيانات كان طلب من القائد العام للقوات المسلحة تطالب المواطنين عدم التعرض للأجانب فهم ضيوف على العراق، كما طالبهم بالاخبار عن اماكن تخفى كبار المسئولين وعدم المساس بهم بل تسليمهم الى الشرطة، وقد تكرر اذاعة هذا البيان وأمثاله مرات كثيرة. ولكن الأيام القليلة التى تلت قتل قتل فيها الكثيرون من المسئولين السابقين والكثيرون من الأبرياء أيضا، بالاضافة الى العائلة المالكة ونورى السعيد الذى مثل الرعاع بجثته وجثة عبد الاله ولي العهد أسوأ تمثيل يتذكره كل من عاش تلك الفترة العصيبة، فقد سحلت جثتيهما فى شوارع بغداد وضربتا بالحجارة ومزقتا بالسكاكين حتى لم يبق منهما ما يمكن دفنه.
هل أن اولئك الغوغاء السفاكين يمثلون الشعب العراقي؟ أبدا.. فان ذلك حصل ويحصل فى كل مكان فى العالم عند استبدال حكم بغيره عن طريق القوة، فينتهزالفرصة المجرمون واللصوص والقتلة والمغامرون فيخرجون الى الشوارع لاشباع رغبتهم فى الاجرام كما فعلوا بعد دخول الأمريكان الى بغداد فى نيسان 2003، وأما الغالبية الساحقة فهم كالمعتاد يمكثون فى دورهم لا يخرجون منها بانتظار أن تهدأ الأمور ويعود النظام الى نصابه.
لماذا نجحت الثورة؟
لكل حكم معارضيه، حقا أو باطلا، وكذلك كان الحكم الملكي. فى أواخر الحكم العثماني بدأ التململ فى البلاد التى كانوا يحكموها بسبب الظلم الذى أصاب أهلها على مدى أربعة قرون، ومنها العراق، حيث كان الولاة العثمانيون يجبون الضرائب من الشعوب المحكومة الفقيرة ليزيدوها فقرا على فقر. احتاج العثمانيون الى من يؤيدهم ويعينهم على سيطرتهم، ووجدوا ذلك فى بعض شيوخ العشائر ووجهاء المدن من الملاكين، فأغدقوا عليهم بالأموال وأقطعوهم مساحات زراعية شاسعة من أجود الأراضى الزراعية ليكسبوهم الى جانبهم، فكانت بداية للاقطاع الذى استعبد الفلاحين وعوائلهم، ولم ينقذهم من تعاستهم الا دخول البريطانيين ودحر العثمانيين واخراجهم من البلد.
لم يفعل البريطانيون شيئا يذكر فيما يخص الاصلاح الزراعي، لانهم احتاجوا الى الاقطاعيين كما كان يحتاجهم العثمانيون لبسط سيطرتهم على العراق وخصوصا بعد ظهور النفط فيه، فكان العراقيون كمن يستبدل لصا بلص. وحصلت ثورة العشرين وشكل الانكليز حكومة عميلة لهم، ولكن بقى كل شيء على حاله بالرغم من تشكيل مجلس نيابي منتخب بصورة هزلية، فقد كانت اغلبية أعضاء المجلس من المتنفذين فى العهدين الماضيين. حصلت بعض الاصلاحات التى لا تقارن بما كان يستطاع عمله لو كانت الحكومة وطنية حقا. وهكذا استمر الحكم الملكي بشخصياته المعروفة التى كانت تتداول الحكم فيما بينها، والويل لمن يعارضهم.
قامت حركة عسكرية بقيادة بكر صدقى فى عام 1936 وفشلت، ثم حركة رشيد عالى الكيلانى فى عام 1941 وفشلت ايضا. وأذكر هنا انه عندما بدأت الجيوش البريطانية تتجه نحو بغداد للقضاء على تلك الحركة، قامت اعمال النهب التى عرفت فيما بعد ب(الفرهود) الذى لم يقتصر على نهب اليهود فقط، وشاركت الشرطة أيضا فى أعمال النهب والسلب أيضا. وفى عام 1948 وقيام دولة اسرائيل تأججت العواطف الوطنية أكثر، وأخمدت الحكومة قيام أي حركة ضدها قبل قيامها. ثم قامت الثورة المصرية، وأخذ عبد الناصر ينادى بالوحدة العربية الفورية، وزاد ذلك من حماس الجماهير، وحماس ضباط الجيش العراقي مما جعل الوقت مناسبا لقيام ثورة الرابع عشر من تموز المجيدة، حيث ألغى الزعيم نظام حكم العشائر والاقطاع والغى المعاهدات والأحلاف العسكرية، وسن قانون الاصلاح الزراعي، وقانون رقم 80 الذى استرد العراق بموجبه من الشركات الأجنبية معظم الأراضى العراقية التى منحها له الحكم السابق للتنقيب عن النفط فيها (وهذا كان من أهم الأسباب التى أدت بالأطاحة بحكمه)، وحرر الدينار من كتلة الاسترليني، وغيرها من الاصلاحات التى يصعب حصرها فى مثل هذه العجالة.
وكالعادة، انقسم العراقيون ما بين مؤيد ومعارض ولم يحافظوا على الحكم الجمهوري الجديد الذي كانوا يحلمون به، وانقسم الجيش كذلك، وحاول عبد السلام عارف اغتيال الزعيم. وقامت حركة الشواف فى الموصل بمباركة عبد الناصر الذى أمدهم بالسلاح ومحطة اذاعة فى سوريا، ولكنها فشلت بعد سقوط آلاف الضحايا، وفشلت عدة محاولات انقلابية أخرى، فوجد البعثيون الفرصة سانحة أمامهم لينقلبوا على ثورة تموز وقتل قائدها الزعيم عبد الكريم قاسم وقتلوا معه الآلاف من العراقيين الوطنيين، ودخل الشعب العراقي فى فترة من أحلك الفترات التى عرفها فى تأريخه، وما زال يعانى منها حتى الآن، وكل ذلك بسبب تشرذمه وتعدد أهوائه وتغليب المصلحة الخاصة على العامة.
عاطف العزي
التعليقات