بمناسبة الحدث الخليجي الأول هذه الأيام (بطولة خليجي 19 بكرة القدم)، التي تقام في سلطنة عمان، لعل هناك من تساءل مسبقا فيما إذا كان العراق بلد خليجي؟ والآخر غاب عنه، بينما لدى البقية الأخرى مسلمات تتراوح بين الجزم بالإنتماء أو عدمه. ولكن ما هي معايير الإنتماء هذه التي يحدد وفقها تصنيف بلد ما ضمن إقليم معين؟


توجد عدة معايير أولها العامل الجغرافي من ناحية الموقع، بالإضافة إلى طبيعة الأرض وتضاريسها وما يعكسه ذلك في أنماط الحياة اليومية وحتى في بناء الشخصية. والثاني هو العامل الثقافي، حيث مدى التشابه في العادات والتقاليد والقيم واللغة والدين وما إلى ذلك. والعامل الثالث هو النظام السياسي، والرابع النظام الإقتصادي، والخامس التكوين الإثني (أي مدى التنوع الديموغرافي وفقا للعرق). وربما هناك عوامل أخرى.


فبالنسبة للمعيار الجغرافي، فإن العراق يطل على جزء من الخليج العربي. وهذا عامل انتماء، ولكن من ناحية تضاريسه وطبيعته الجغرافية، يختلف من نواح عديدة منها إختلاف المناخ الذي يتمايز كلما صعدنا شمالا وصولا إلى شماله الذي يضم جبالا مرتفعة تسقط عليها الثلوج وتبقى حتى أشهر الصيف على بعض قممه. يضاف إلى ذلك وجود الأنهار وما يخلفه من تفاوت في طبيعة المعاش والطباع، والعلاقات والبنى الاجتماعية. ورغم أن العراق يشترك بالعديد من مفردات العامل الثقافي مع بلدان الخليج العربية، حاله حال بلدان العالم العربي الأخرى، لكن ماذا لو تمت المقارنة في مسألة ترجيح إنتماء العراق إلى إقليم آخر كالهلال الخصيب الذي يضم بلاد الشام (سوريا ولبنان وفلسطين والأردن) والعراق معا. ففي هذه الحالة سيكون ترجيح إنتماء العراق إلى هذا الإقليم الأخير أكثر من إنتمائه إلى الخليج.


وعلى هذا الأساس ووفقا للمعيار الثقافي والاثني فإن العراق يتكون من أعراق (مكونات اثنية) مختلفة بالإضافة إلى العرب مثل الكورد والتركمان والآشوريين والكلدان والسريان والأرمن والشبك. أما بالنسبة للأديان فبالإضافة إلى الإسلام يوجد أتباع الديانة المسيحية واليهودية (إلى وقت قريب وحتى هجرة وتهجير اليهود بعيد إعلان إسرائيل دولة عام 1948،عاش في العراق حوالي ربع مليون يهودي عراقي ترجع أصولهم إلى السبي البابلي الأول عام 597 ق.م، والثاني عام 586 ق.م). كذلك يعيش في العراق أتباع الديانة الصابئية المندائية، والايزيدية، وهي ديانات عراقية قديمة لازالت حية لدى هؤلاء. ومن المذاهب الدينية هناك الشيعة الأمامية والسنة والشبك والكاكائية ومن المذاهب المسيحية، الكاثوليك والبروتستانت والأرثوذكس، وأتباع الكنيسة الارمنية والنساطرة. وهذا التنوع يكاد يكون موجودا ومتشابها مع الحال العراقي في إقليم الهلال الخصيب، بينما لا تجده في بلدان الإقليم الخليجي، وإن وجد ففي بعض عناصره الضيقة (مذهبي إسلامي فقط) في بعض بلدان الخليج خاصة البحرين والكويت والسعودية.

وتتعزز هذه المقاربة/المقارنة فيما يخص النسق السياسي، فالعراق ومنذ بداية تكوينه ككيان سياسي بإسم (المملكة العراقية) عام 1921، قد اعتمد على نظام حكم الملكية الدستورية والتمثيل النيابي، وهذا ما لم يتمثل في بلدان الخليج العربية الأخرى. كذلك برزت في جوانب هذا النظام الأحزاب السياسية، وهو ما لم يظهر حتى الآن في تلك المنطقة، سواء على صعيد تشريع أو تأسيس الأحزاب أو ربما حتى القبول الاجتماعي لها. وعلى نفس الصعيد نجد أن العراق قد قبل اجتماعيا وسياسيا على فترات ولو متقطعة أحزابا تمثل ايديولوجيات عالمية أو إقليمية، تتعدى طموحاتها وأجنداتها خارطة الوطن العراقي، مثل الحزب الشيوعي (العراقي)، والأحزاب القومية والدينية. في حين أن مثل هذه الأفكار والأحزاب لم تجد لها موطئ قدم في تلك المنطقة (الخليج). وأن العراق قد شهد إنقلابات عسكرية وتغيرات في أشكال أنظمة الحكم، بينما شهدت بلدان الخليج استقرارا تاما منذ فترات الإحتلال والإنتداب ومن ثم الإستقلال. بينما على الجانب الآخر فإن مثل هذه الأحزاب والأنظمة والحياة السياسية وعدم الإستقرار إلى حد ما، قد تشابهت بدرجة كبيرة مع العراق في منطقة إقليم الشام.


وفي جانب معيار النظام الاقتصادي، فإن النظام الإقتصادي العراقي يختلف إلى حد كبير باستثناء وجود عنصر النفط الذي يعتبر ركيزة أساسية فيه، لكن العراق يعتبر بلدا زراعيا وتركيبته الديموغرافية كانت والى عقد الستينات من القرن الماضي تقريبا ترجح أن النسبة الأكبر هي من سكان الريف، وبعدها سكان الحواضر، وبنسبة أقل وبفارق شاسع وجود أعداد من البدو، وهم في الأصل من سكان شبه الجزيرة العربية الذين اعتادوا التنقل في البادية الممتدة من حدود العراق الجنوبية الغربية وصولا إلى البادية السورية. وهذه الأنماط الحياتية موجودة في بلدان الإقليم الشامي أكثر من الخليجي، حيث وجود نمطين إلى حد كبير هما البادية والحضر.


وبخصوص المعيار الاقتصادي، فقد خلق التفاوت في الدخل بين بلدان الخليج والعراق، إضافة إلى ما خلقته الظروف السياسية التي مر بها العراق جراء الحروب وغزو الكويت شرخا كبيرا بينه وبين تلك البلدان التي إستعدت مسبقا إلى عزل نفسها في إطار سياسي هو (مجلس التعاون الخليجي) الذي جمع تلك البلدان على أساس خصائصها الإقتصادية والثقافية بالدرجة الأولى. حيث عوامل التوحد بينها إلى درجات كبيرة. وهذا مؤشر على وجود فوارق كبيرة بين العراق ككيان (اجتماعي- ثقافي- سياسي- اقتصادي- جغرافي) وبينها. وهو ربما انعكس على طبيعة تعامل تلك البلدان مع العراقيين في أزماتهم السياسية والاقتصادية في العقدين الأخيرين، حيث رفضت تلك البلدان فتح أبوابها لموجات المهاجرين العراقيين نتيجة لظروف الحروب والحصار وأخيرا الظروف الأمنية الداخلية، وتعاملت بانتقائية وبراغماتية من خلال حصر تأشيرات الدخول (فيزا) إلى أصحاء الكفاءات خاصة الأطباء والمهندسين وحملة الشهادات العليا، ويفضل من بين هؤلاء من يحملون جنسيات بلدان أوربا الغربية وأميركا وكندا واستراليا ونيوزيلاند. بينما فتحت بلدان الجوار (الشامي) الأردن وسوريا خاصة أبوابها واستقبلت مئات الآلاف من العراقيين.


لا شك أن نقاط الإلتقاء هذه تحديدا تقلص حتى الفوارق الاجتماعية والنفسية بين الشعوب. وبالمقابل يتبادر إلى الذهن موقف بعض بلدان الخليج التي لازالت لم تتنازل أو تخفف ديونها عليه، أو التعويضات المترتبة على غزو الكويت، رغم مبادرة بعضها وتعاملها بسخاء في مجالات إقتصادية وسياسية وإنسانية مع العراق مثل دولة الإمارات.


مرة أخرى، ما يعزز هذا المقارنة ويرجح وجود فوارق تكاد تكون شاسعة بين العراق وشعوب الخليج العربية، اللهم باستثناء بعض التشابه في الفولكلور واللهجة المحلية لمحافظة البصرة، هي الجوانب الاجتماعية، مثال العلاقات الاجتماعية بين الجنسين، والاختلاط بينهما، ومكانة المرأة وحضورها في المناسبات الاجتماعية والرياضية والسياسية، والتعليم والمناصب الإدارية وغيرها. خذ مثلا أن المرأة لازالت إلى وقت قريب لم تنل حقها في الانتخاب وليس الترشيح فحسب إلى البرلمان في الكويت التي تمثل وجها مشرقا للديموقراطية في الخليج. فقد وقف ممثلو الشعب الكويتي بالمرصاد لأي مشروع قرار برلماني يسمح للمرأة بالانتخاب في الكويت إلى أن تدخل أمير البلاد وفرض هذه المسألة، وهذا دليل على شكل quot; الديموقراطيةquot; التي ربما تناسب بعض الشعوب لاعتبارات اجتماعية. يضاف إلى الفوارق الأخرى التسامح الديني والمذهبي والزواج المختلط، حيث توجد هذه الخصائص في المجتمع العراقي، في حين أنها قليلة جدا وربما نادرة في بعض بلدان الخليج. ومثل هذه الخصائص تجدها في بلدان الشام مع بعض الفوارق القليلة.


نسوق هذه الأمثلة والمقارنات والمقاربات، ليس لأغراض التفاضل بين شعوبنا، فلكل منها ما تفخر به، بل نفخر به نحن. وبلدان الخليج قد حققت إنجازات كبيرة في مجالات التنمية الإجتماعية والإقتصادية والإستقرار السياسي وغيرها، ولكن غرض هذا الموضوع هو معرفة أسس إنتماء بلد إلى إقليم ما، وإلقاء الضوء على موقع العراق في الخارطة الجغرافية والاجتماعية والثقافية في المنطقة. وبالتالي فإن معرفة موقع العراق إقليميا على أساس الروابط المشتركة التي تجمعه مع هذا الإقليم أو ذاك سوف ييسر من إمكانية تحقيق تكامل في شتى مجالات الحياة ولا تحتاج إلى عناء كبير وشراكات غير متكافئة.

* د. حميد الهاشمي

كاتب عراقي متخصص بالانثروبولوجيا وعلم الاجتماع: www.al-hashimi.blog.com