في ثمانينات القرن الماضي برزت إلى السطح الثقافي أطروحتان مهمتان إحداهما أطروحة العقل العربي التي قدمها المفكر المغربي محمد عابد الجابري والأخرى أطروحة العقل الإسلامي للمفكر الجزائري محمد أرغون حيث حاولا في هاتين الأطروحتين عرض ماعدوه سمات مميزة لما أسموه العقل العربي والعقل الإسلامي قبل أن يقوما بنقد هذا العقل الذي افترضاه حيث جاء النقد حافلا بالاستشهادات التي تبرز نقاط الضعف في هذا العقل المفترض والإخفاقات التي أدت إلى تدهوره معتبرين أن التدهور أمرا محدثا وجاء نتيجة عوامل وظروف معينة لم تكن على أي حال من أصل العقل نفسه ولكن ماعرضاه في أطروحتيهما المتباينتين لم يكن كافيا لبلورة رأي بشان سمات هذا العقل المفترض برغم الضجة التي أثاراها والصدى الذي خلفاه في الأوساط الثقافية لان أطروحة كل منهما تكاد تمثل نقضا لأطروحة الأخر لان الأول يفترض وجود عقل عربي أصيل تمدد مع الفتح الإسلامي ليواجه تيارات مضادة مصدرها ثقافة الشعوب المفتوحة لاسيما في الشرق حيث التيارات الغنوصية المضادة التي أضعفت هذا العقل إلى حد كبير محملا إياها الكثير من إخفاقاته وانتكاساته وبالتالي هو يحيل الإخفاق إلى العامل الخارجي وليس إلى العقل العربي المفترض أما مشروع أرغون الذي أعقب مشروع الجابري.

فقد انطلق من الدين الإسلامي كمنتج للعقل حيث اعتبر الاحتكاك الديني مع الغرب لاسيما خلال الحروب الصليبية عاملا من عوامل الإخفاق وسببا في تدهور العقل الإسلامي أي انه وان اختلف مع الجابري بخصوص فحوى العقل إلا انه تماثل معه في جملة عناصره بل وحتى في السبب الخارجي للإخفاق ويبدو لي أن المفكرين ( بتشديد الياء ) ونظرا لضعف الثقافة العربية والإسلامية في بلديهما وتعرضها للتحدي الغربي ( الفرنسي بشكل خاص ) حاولا أن يبرزا انتماءا عقليا مغايرا لواقعهما حتى يكون بإمكانهما رد الادعاء الفرنسي بعدم وجود ثقافة في البلدين أقدم من ثقافة الغازي الفرنسي ( يلاحظ أن الثقافة الفرنسية ماثلة بقوة في الأوساط المغاربية لتؤكد استمرار الاحتلال الثقافي الفرنسي برغم انقضاء الاحتلال السياسي ) وبدلا من أن يتكلا على مورثهما المحلي المتواشج مع تاريخ المكان وأصول السكان ذات الخلفية المغاربية هربا إلى ثقافة لم تكن أبدا من واقع المكان ولم يكتب لها الاستقرار أو الرسوخ فيه فكان جل ما أراداه ( وهي إرادة النخب المتصدية للاحتلال آنذاك ) إيجاد ثقافة منافسة لثقافة الغازي الفرنسي حتى يكون بمقدورهما الاحتماء بها والتمترس خلف تراثها العقلي من اجل أن يمنحا توقهما للاستقلال دافعا قويا وإذا كان هذا الأمر مبررا في المنطقة المغاربية وقد يفهم به رواج هاتين الأطروحتين فان الأمر يختلف طبعا في منطقة المشرق الأقل تعرضا للتحديات الثقافية والتي تمتلك موروثا محليا عريقا لكن يبدوا انه تناغم مع هيمنة الدكتاتوريات العسكرية التي أرادت أن تنتج خصاما مع الغرب يبقي على حضوضها في البقاء بعد أن أدركت أن الثقافات المحلية لاتمثل رصيدا لهذا النوع من الخصام لأنها تتوق لإبراز وجودها والتخلص من هيمنة العقل الغازي الغريب عن جذورها فالغرب يمثل معينا لهذه الثقافات بإزاء ثقافة العرب الوافدة وليس هدفا للمقاومة الأمر الذي رسخ هذا المفهوم حتى بدا وكأنه الأصل الذي لا محيص عنه فقضية العقل العربي أو الإسلامي لم تعد موضع تشكيك لأنها توافقت مع رؤى الأيدلوجيات الحاكمة في العديد من البلدان العربية وتناغمت مع عطش الشعوب الديني بفعل الصعوبات التي يواجهونها الأمر الذي سمح برواج هاتين الأطروحتين بل واشتهارهما حتى بدتا مثل وحي منزل ولعل من ابرز تأكيد لذلك إصرار النخب الثقافية على الاحتفاء بهما كمرجعين أساسيين تفسر من خلالهما القضية الثقافية فكان أن راجت في الساحة أطروحات لنقد مشروعي الجابري وأرغون ليس من قبيل النقض أو التقويض بل من قبيل معاينة الأخطاء ونقاط الضعف فكل مافعله المفكر جورج طرابيشي رغم موسوعيته الهائلة ومعلوماته الغزيرة هو محاولة نقد المنهج الذي بنى عليه الجابري أطروحته والتشكيك بمصادره فيما هو في المجمل ثبت هذه الأطروحة محددا مجاله بنقد ماتحويه من معلومات دون الذهاب إلى ابعد من ذلك وهذا ماحصل مع الكثير من الأطروحات الأخرى الأمر الذي جعل هاتين الأطروحتين بعيدتين عن التشكيك أو النقض وبالتالي لابد لمن يريد أن يحاكم عجزنا ويفهم كسلنا من الخروج من قوقعة الفهم القديم ومحاولة الانطلاق نحو أفاق معرفية جديدة تؤسس لفهم صادق وجريء فقد أثبتت هاتين الأطروحتين أنهما أكثر هشاشة مما نعتقد ليس لان كل منهما يمثل نقضا للأخر وإنما لأنهما ينطلقان من نفس المنهج وهو قراءة الواقع الثقافي قراءة واحدة مبنية على نسق الدين أو اللغة فإذا كانت الشعوب القاطنة في هذه المنطقة تتحدث اللغة العربية فهذا يعني أن عقلها عربي وثقافتها مرتبطة بالعنصر العربي وإذا كانت الديانة التي يعتنقها الناس إسلامية فهذا دليل على أن العقل الذي يحكم الناس مرتبط كليا بهذه الديانة مع أن المعروف أن هذين الأمرين أي اللغة والدين ليسا سوى عنصرين وافدين وهما مرتبطان بالغزو ( الفتح ) العربي الإسلامي الذي اعتمد على السيف في نشر نسقه وبالتالي لم يكن هذا العقل الغازي هو العقل الأصيل المعبر عن منطق الواقع ونسق المجتمع وهذا الأخير لايمكنه أن يذوب تماما بمجرد هزيمته بل سيبقى يكافح ويناور من اجل البقاء وقد يتقمص ثوب الغازي ويحاول أن يتماهى معه لكنه لابد أن يحتفظ بروحه وشيء من مضمونه كدليل على وجوده ولذلك لايصح أن نعتبر العقل القديم مجرد نسق هامشي معارض كما حاولت أن تطرح الأطروحتان المعنيتان بعرضنا بل يجب أن يحسب العكس ( بضم الياء ) أي أن ما نفترضه عقلا بارزا هو تعبير عن نسق مغاير للنسق الأصيل القابع في عمق الثقافة الظاهرة ( العقل المتواري )الأمر الذي نستطيع به فهم كل الانتكاسات التي شهدتها مجتمعاتنا فبدلا من أن نفسر هذه الانتكاسات والإخفاقات على أنها انحراف في العقل البارز ( المهيمن حقيقة ) أو نعده معارضة خارجية لنسقه يمكننا أن نعدها نتاجا لمحاولة العقل الوافد التغلغل عميقا في عمق انساق العقل الأصيل وهذا الأمر بطبيعة الحال لن يكون ناجحا على الدوام لان من سمات العقل الأصيل القدرة على المطاولة والمقاومة نظرا لرسوخه في أعماق الوعي والثقافة ما يجعلنا بإزاء جملة من الانحرافات المتوالية والانتكاسات المتكررة التي تبقينا على هذا المستوى المتدني من الحضارة بل أسوا من ذلك وبالتالي نحن بحاجة إلى إحياء لثقافتنا المحلية المستوطنة في لا شعورنا أو خطنا الثقافي الخلفي حيث يمكننا الانطلاق منها إلى أبعاد كبيرة فالعقل الذي يتحكم بحيويتنا ليس ذلك العقل السطحي المضخم افتعالا بل العقل المحلي المرتبط بجذورنا وأصولنا وخير تأكيد على هذه الهيمنة المفتعلة بقاء الثقافة المحلية حية وفاعلة بل وبروزها في الآونة الأخيرة كتأكيد لهذا الحضور الذي ما انفك يبرز كلما سنحت الفرصة لذلك حيث أخذنا نشهد مؤخرا تصاعدا في النزعات المحلية سواء في بلدان المشرق العربي أو في الأقطار الامازيغية ( منطقة المغرب العربي ) حيث يلاحظ تباين في درجات التعارض مع العقل البارز ( المهيمن ) بل واختلافا في اطر هذا التعارض ما ينبأ بامتلاك كل منطقة لعقل خاص يمثل سماتها المميزة ومنطقها الثقافي الخاص فهناك عقل عراقي وعقل مصري وعقل سوري وعقل مغربي... الخ وليس عقلا واحدا يجمع شعوبا متباينة كل التباين ف بين العراقي والمصري اختلافات كثيرة لايطمسها تشابه اللغة أو الدين ومايحكم العلاقة بينهما ليس عقلا جامعا سواء كان هذا العقل عربي أم إسلامي بل عقليين متمايزين بينهما بعض التوافق والكثير من الاختلاف لذا ليس لنا إلا أن نعد كل من أطروحتي العقل العربي والإسلامي على أنهما ابعد من أن يفسرا واقعنا الثقافي الذي يحتاج إلى الكثير من القراءة العميقة والجريئة لان مشاكلنا لاتحل بوعي مزيف وطرح متهافت بل يجب أن يكون هناك فهم أوسع ورؤية أعمق لما نحن عليه وبالتالي يجب أن نزيل هذا الفهم السيئ لنكون متحررين من أبعاده فقد يكون بإمكاننا معالجة قضايانا بحرية اكبر وبوعي مسئول لو تم الأمر بشكل صحيح ولعلنا بهذا الوعي المغاير قادرين على حل أعوص مشاكلنا وقضايانا قضية فلسطين بعد أن نحررها من استلاب عقلنا المزيف - عقل الوعي الجمعي.

باسم محمد حبيب