لم يأتِ الاسلام للناس من اجل عبادة الخالق دون تحقيق مصلحة الخلق،فالخالق والخلق عنصران متلازمان بعضهم من بعض،فلولا الخلق ما عُبد الخالق ولما اصبحت الحياة لها من معنى(و ما خلقت الانس والجن الا ليعبدون،الذاريات 56). ويُقصد بالعبادة هنا هي العلاقة الصميمية بين الخالق والخلق.،حتى قال بعض الفلاسفة :لولا وجود الخلق لانتفت الحاجة للخالق.لذا نلاحظ ان المعايير الاساسية التي انزلها الله سبحانه وتعالى للناس لتكون وسيلة لدروب الهداية الحياتية للانسان،.فكانت وصايا الخالق بمثابة حجر الاساس في بناء الحياة الانسانية للبشرية جمعاء،حين منحهم وسيلة المعرفة والتوجه الصحيح لدروب الصلاح والفلاح بوصاياه السرمدية التي يجب ان لا تخرق ابدا لانها قوانين الحياة الاصلاحية التي لا تخيب.

من هنا لا نجد يوما جديدا في حياتنا الا واشكاليات كثيرة تولد معه،فنظريات التطورالمستجدة تعتبر هرطقة عند البعض تستوجب المراجعة والتفكير،لان الفكر القديم الجامد لم يعد يستوعب عملية التجديد،لابل هالهُ ما يرى وما كان يحسبه سرمديا لايناقش،كنظرية التطور العلمي في معرفة جنس الجنين عند المرأة قبل الولادة،فظل يكافح وينافح من اجل ابقاء القديم على قدمه دون تغير،متخذا من النص الديني المفسر وفق نظرية الترادف اللغوي الخاطئة سندا له في تطبيق العادات والتقاليد البالية حتى ولو تضاربت مع النص، متخذين من المفسرين تخريجا بعيدا عن الواقع والحقيقة المستجدة،وخلافا لسنة الطبيعة ومقادير الحياة.

هكذا ظلت الزعامات القبلية والملكيات الدكتاتورية تسود الناس بقانون القوة،،متناسية ان الزمن يلعب دور في عملية التغيير.فكانت الفرعونية والهكسوسية واليونانية متفقة على ان البشر يلزمهم قانون القوة لا قوة القانون. والحضارة العراقية القديمة بتشريعاتها القانونية منذ عهد اصلاحات اوركاجينا واور نمور في العهدين السومري والاكدي كانتا بداية التطور الفكري في عالم الخلق الانساني حتى جاء حمورابي ليضع مسلته القانونية المستوحاة من الاله ليكمل قانون القوة المستوحى من الالهة،رغم مافية من حقوق للناس.لقد اثبتت التحريات الاثارية الحديثة انها كانت تطبق لمنفعة طبقة دون اخرى.

ثم جاءت مرحلة الديانات الثلاث اليهودية والمسيحية والاسلام،لتفرز لنا افكارا مغايرة تماما لما اعتاد عليه الناس من قبول ارادة الحاكم،فاليهودية جاءت بالتوراة وبتسع ايات بينات(الاسراء 101)، تطالب بتطبيق العدالة الاجتماعية بين البشر والتي انهت غطرسة فرعون وتحكمه بالناس بعد ان اغرقه الله في بحر الظلمات.ثم جاءت المسيحية بالانجيل وبثلاث ايات بينات،تطالب بالسلام والمحبة بين الناس ونبذ الحروب بين الشعوب(آل عمران 49)،لتدمر كل تطلعات اليونان والرومان في استعباد شعوب الارض ولتنهي الاسكندر المقدوني والذي به انتهى ظلم الامبرطوريات. ليخلفهما الاسلام باكثر من ستة الاف من الايات البينات(يونس 15) التي وضعت تشريعا عاما لكل الناس في الحقوق والواجبات،ولتنهي نفوذ قريش وابو جهل وكل الظالمين ولتصبح قبورهم ترجم الى ابد الابدين.

لقد جاءت في القرآن كل الوصايا العشر التي وردت في الديانات السابقة بآياتٍ الزامية التحقيق دون مسامحة (الانعام 151-153) فشملت الوصايا: الاخلاق والاحسان بالوالدين وتحريم قتل الاولاد دون ذنب معين والنفس الانسانية الا بالحق واجتناب الفواحش ما ظهر منها وما بطن وصيانة حقوق الايتام والكيل والميزان والعدل المطلق والايفاء بعهد الله والاستقامة الحياتية دون تمييز ووصايا للحاكمين في حكم الناس.

هذه هي وصايا القرآن الكريم والتي منها اخذ الرسول (ص) دستوره الذي عرف بدستور المدينة بحوالي( 72 )مادة قانونية ملزمة،شملت كل ما تحتاجه الدولة العصرية من قانون،كتبت بعد السنة الخامسة للهجرة،لكن الدولة الاسلامية بعد الراشدين قد اهملت الدستور وعتمت عليه بالكامل،ولم يرد لنا منه نصاً واحداً مكتوباً في حياة الدولتين الاموية والعباسية(41-656للهجرة). لقد نادينا الف مرة بضرورة احيائه،لعلهم يستجيبون،لان الدستور لم يدع لحاكم سلطة على محكوم ولا تفريق بين حاكم ومحكوم الا بالحق المطلق،هذا الاجراء الرباني لايتوافق وما استجد من مصالح الاخرين.

لم تكن وصايا القرآن وحدها هي التي احكمت العدالة في الاسلام،وانما كانت وصايا الرسول في الحكم،حين اوصى بالشورى بينهم دون تفريق ولم يترك نصاً مكتوبا في ولاية امر المسلمين لشخص معين.هذا الموقف العادل استغله الفقهاء ليجدوا لهم الف تخريج وتخريج بأحقية آهل البيت (ع) في خلافة جدهم رسول الله وما اوردوه في حديث غدير خم اي خطبته(ص) في حجة الوداع والخطبة موجودة في سيرة ابن اسحق بالكامل،لم تذكر ما به يدعون. وأنما الخلافة شورى بين المسلمين بقانون آلهي لا يخرق ابدا. وان مثل الامام علي ماكان يقبل ابدا بخلافة بالتعيين دون الاختيار من الامة.

وجاءت وصايا الخلاقة الراشدة اذا أوصي الخليفة الاول ابي بكر الصديق(رض) ليخلفة عمر(رَض) في ولاية المسلمين لان أبا بكر كان يعلم فيه كل الصفات الحميدة،ولظروف الحالة السياسية المعقدة التي كانت تستدعي ذلك. وتوالت الايام بحلوها ومرها حتى انتهت خلافة الراشدين، حين رفض عمر(رض) ادخال اسم ولده عبدالله مع الستة المختارة في انتخاب من يخلفه بعد موته،ولم يوصي الامام علي بن ابي طالب(ع) بأبنه الحسن وأنما جعل الامر مفتوحا لارادة المسلمين(لا اوصيكم ولا انهاكم،انظر نهج البلاغة). ولم يسمح حتى بتولية اخيه عقيل بأية ولاية او وظيفة في الدولة لأعتقاده بعدم اهليته لها. لان الولاية لا تأتي الا على القدر والاستطاعة وهو غير مؤهل لها من الناحية الفنية والادارية(السيوطي،تاريخ الخلفاء ص204). لكن المشكلة الي واجهته حين اراد تطبيق النص في عائدية بيت المال وتطبيق العدالة على حد السيف على مختلسيه حين يقول: (والله لو وجدته قد تزوج به النساء،وملك به الاماء،لرددته في بيت المال،فأن في العدل سعة ومن ضاق عليه العدل،فالجور عليه اضيق)هذا الموقف الاسلامي العادل هو الذي وضعه في موقف الحرج من الطامعين، فهل من احد يستطيع ان يطبق هذه العدالة الموصى بها من القرآن من كل البشر وعلى مدى عصر الزمان.هنا تكمن مشكلة الاسلام من عدمه.

لقد كانت الوصية في الاسلام مشروعا اسلاميا بكل قسماته الحضارية،لكي ينهض الاسلام وتتجدد قيمه وتستمر مجتمعاته الجديدة وفق نظرية التطور الحضاري للعدالة الانسانية. لذا جاءت آيات الوصايا كلها حدية واجبة التنفيذ،لخلق مشروع حضاري اسلامي ترتبط توجهاته بمنطلقاته لتحديد المسار الرباني دون تحريف.،قابلا للتطبيق،لذا جعل الترابط بين المنطلقات والتوجهات،ترابط وثيق لتحديد المسار بمشروعية قانونية لا تخترق بجعل الانسان هو المحور المحرك بعد اعطائه مكانة التكريم والتقوى والوقاية من اي انحراف(ونفسٍ وما سواها،فألهمها فجورها وتقواها،قد أفلح من زكاها، وقد خاب من دساها). فالشريعة منطلقيا تعطي امتداد الزمان،واتساع أفاق المكان،ليكون الالتزام والوعي وعيا تاريخيا مستوعبا ومتناميا ومتسعا ومتجاوزا كل خطأ محتمل بالعقل والادراك،وان كان الخطأ يدركه العقل الانساني متى عرض عليه،فالعقل مضطر لقبول الحق على ما قاله الامام الشافعي حقا وصدقاً.

لقد كانت الوصية ملزمة التطبيق في التاسيس القرآني للمجتمع،بعد ان أكمل الله تعالى الدين وأتم النعمة،بالرسالة الخاتمة حتى وصلت مرحلة الكمال التي لا ياتي بعدها الا النقص، ان هي لم يحافظ عليها قولا وتطبيقا(اليوم أكملت لكم دينكم واتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام ديننا )،هنا كان الافتراق بين نبي منفذ وبين اخرين لم يستوعبوا الدرس المطبق بعد،فقالوا منا امير ومنكم امير مهاجرون وانصار، وهي اخر وصية يتركها القرآن للبشرية ملزمة التنفيذ.


ثم جاءت وصايا القرآن بحق المرأة في تعدد الزوجات والارث والزواج والطلاق والقوامة وكلها تحسب لجانب العدالة الاجتماعية دون تفريق، وقد شرحناها في مقال سابق نشرته مجلة آيلاف مشكورة.
فلا تعدد للزوجات الا بقانون حماية الايتام والارامل وعلى القدر والاستطاعة،لا على الجنس والاستمتاع كما روج لها فقهاء السلطة، والارث محكوم بالوصية،.البقرة 180).وهي هي مفضلة على آية الارث لقدرتها في تحقيق العدالة، ثم تاتي وصية الكلالة التي قدم فيها الابناء دون تفريق بين انثى وذكر واستغلت لصاح الاقرباء دون بنات المتوفي،انظر الاية12 من سورة النساء. اما الزواج والطلاق فقد ربطهما بمثاق قوي غليظ،ولا ندري من اين جاؤا بالطلاق المتهور بالثلاث ووصايا اخرى كثيرة يطول شرحا الان.

ثم جاءت الدولة الاموية،ليتزعم فقهاء السلطة وصاياهم من اجل الحاكم لا المحكوم،كما في وصية معاوية الاول ليزيد الاول في ورائة العرش وجعلة ملكاً عضوضا لهم دون الاخرين ضاربين آيات الشورى واقوال الرسول عرض الحائط الى ان هيأ الله للمسلمين الخليفة العادل عمربن عبد العزيز ليعيد الامر للناس والمسلمين لكن فترة حكمه ومن جاء من بعده الغى كل اصلاحاته القانونية فعادت الدولة الى مسار القوة والضعف في آن واحد.

وحين انتقلت الخلافة للعباسيين،استبد بهم الامر ليجعلوها لهم وليحاولوا ان يوهموا الناس بشرعية السلطة عن طريق الوراثة وقانون القوة لا قوة القانون كما قال عميدهم ابو جعفر المنصور(ايها الناس،أنما انا سلطان الله في أرضه اسوسكم بتوفيقة وتسديده اطيعوني ما اطعت الله) وتوالت وصايا المصور لابنه المهدي ولاهميتها نقتتطف منها القليل.ففي مجال المال يقول لابنه المهدي(يا مهدي حصن ثغورك،وحافظ على اموالك،فانك لا تزال عزيزا مادام بيت مالك عامراً).ويقول له في مجال الارشاد والموعظة (يا بني لا يصلح السلطان الا بالتقوى ولا تصلح الرعية الا بالطاعة ولا تعمر البلاد الا بالعدل،ولا تجلس مجلسا الا ومعك اهل العلم من يحدثك).وفي مجال الوصية السياسية،يقول له (يابني السلطان حبل الله المتين وعروته الوثقى،فلا تتجاوز امر الله واحكم بالعدل ولا تشطط).ووصايا اخرى كثيرة.ولكن ياليتهم كانوا يطبقون.


علينا ان نعرف قوانين الحياة وان نلتزم بها ايمانا ونسلم انفسنا بتواضع لهذه القوانين حتى نحقق السعادة ونتقي المصائب التي هي جواب الكون والحياة لكل من عصى هذه القوانين وبذلك نحسن لانفسنا وهذا هو الاسلام وهذه هي وصاياه التي لاتخرق. ان الخطيئة القاتلة التي يرتكبها المسلمون اليوم انهم لا يفرقون بين قواعد السلوك وحقيقة الوجود لان حجر الاساس في القرآن هو علاقة الانسان بربه ليتحرر من كل عبودية فلا ظلم ولا دكتاتورية بل عدل ومساواة واحترام لحقوق الله والاخرين كما يقول الامام علي (9):لا تكن عبدا لغيرالحق،فان الحق حر.
لقد انطلق الرسول من غار حراء ليكمل مسيرة الانقلاب العظيم الذي جاءت به الرسالات السماوية السابقة وما فيها من نقص بحاجة الى كمال حتى بلغها التطبيق الرسولي للبشرية،لكن قمة الكمال لا يأتي بعدها الا النقص،والقرآن الكريم جاء بالرسالة الخاتمة المؤكدة والمصدقة لهذا القاسم المشترك بين البشرية الا وهو التوحيد،فالقرآن مصدق لما قبله ومهيمن عليه.فهل نحن اليوم احفاد محمد والقرآن لنصدق ونهيمن ونعدل وننتصر.

ان من تابع الانتخابات الامريكية وما رافقتها من احداث جسام، يلاحظ ان امريكا دولة عظيمة وشعبها لازال حيا يستطيع مجابهة الصعاب،بعد ان اصبح القانون مقررا في نفسه وعقله وظلت وصايا ابراهيم لنكن ووجورج واشنطن وكل عظمائهم تتعايش معهم لحظة بلحظة ايمانا وتطبيقاًخوفا من المحذور.،فكانت وصاياهم مقروءة في رؤوس الامريكيين لينتخبوا من يرونه صالحا لهم ولوصايا زعمائهم الكبار،لذا كانت وقفة الشعب الامريكي مع الرئيس الجديد للولايات المنحدة الامريكية أوباما هي انتفاضة ضد الظلم والعنصرية لابل هي مصالحة وطنية مع انفسهم والعالم بعد ان وصلت سمعة امريكا الى القاع فاين نحن منهم ومن وصايا عظماؤنا من السابقين؟.

عبد الجبار العبيدي
[email protected]