اعتقد المثقفون والمفكرون ومحللو الأقتصاد ورؤساء الدول الغربية أن الأزمة الأقتصادية الحالية التي تعصف بالعالم هي نتيجة العمليات البنكوية المعقدة المتراكبة على الرهون العقارية دون إمكانية تقويمها كعامل حقيقي ناجز أقتصادياً في سياسة العرض والطلب لأنها تراكبت وتكافلت دون أن يتم التكافؤ الفعلي ما بينها. فالعمليات الأقتصادية العليا أستمدت فحواها ndash; وهماً ndash; من العمليات الأقتصادية الدنيا التي لم تتحقق بعد، كما إن العمليات الأقتصادية المتوسطة والمصارف الوسيطة تكاثرت وتفاقمت إلى حد الإفراط دون دراسة مستفيضة وفرضت نفسها على أسواق المعاملات كنعصر جديد متطور جالب الثراء غير المبرمج لأصحابها وللشركات المتعاملة معها والمعتمدة عليها في حيز معين. وبما إن الرهون العقارية هي المجال الأمثل في تكييف العمليات المصرفية وإخضاع القيمة الرهنية التبادلية فيما بينها في عملية أسميها إجتهاداً ndash; اشتقاق الرهن - تسارعت القيمة المتراكبة المقدرة نظرياً بوتائر جحيمية تفترس في غفلة من الزمن القيمة المتواضعة الأصلية للعملية المصرفية القاعدية الأولى غير الناجزة فعلياً. مما أنتج دوائر فارغة في العلاقة مابين الوارد والصادر لتزداد عدداً وعمقاً على حساب شح السيولة التي بعد أن بلغت حد الجفاف فضحت إشكالية الرهون العقارية، وفضحت معها معضلتين جوهريتين في الأقتصاد الرأسمالي الحر، حيث الأولى عدم قدرة القانون حماية الأصول المالية وامكانية تطويعه حسب إرادة الرأسمال المتمركز، وحيث الثانية الجموح الأبدي للرأسمال ونمظهره في أضعف حلقات بنيوية المجنمع. من هنا ندرك الهواجس التي أستبدت بالمسؤولين والسباق المتسرع في إغراق الأسواق المصرفية بأوراق مالية نقدية خيالية لتغطية الأزمة والتستر عليها كيلا يتم الحجز القسري على العقارات المرهونة وتفقد البورصات العالمية قيمة أسهمها وتمنى بخسائر أفظع مما منيت به حتى الآن ويخسر المدخرين إدخاراتهم ويصاب المجتمع بحالة من الروع والفزع تصل إلى مستوى عدم إمكانية المصارف تحويل حتى الراتب الشهري للموظف العادي. على أثرها سارع المحللون الموالون للفكر الرأسمالي إلى ترقيع الشرخ من خلال محاولات سقيمة قي البحث عن ndash; الخطأ ndash; بعيداً عن طبيعة النظام الرأسمالي ولاسيما النظام الرأسمالي المالي مؤكدين، من جانب واحد، إن البنوك الكبرى الأولى في الولايات المتحدة الأميركية تجاهلت مصداقية المصارف الصغيرة ومراكز الأستثمارفي مسألة الرهون العقارية والقروض المتعلقة بها وأغضت الطرف عن حجم قوتها المالية التمويلية السيولية الحقيقية وأخفقت بالتالي في تحقيق الدورة المصرفية الكاملة المتوازنة، أو من جانب ثان، إن تلك المصارف ولاسيما المصرف الأحتياطي الفدرالي الأميركي المركزي قد أقرضت أموالاً باهظة للمستثمرين بفائدة متدنية مما شجع الطلب على القروض و المستثمرين للدخول في سياسة المعاملات المصرفية، أو من جانب ثالث، تورط المدراء التنفيذيون في تسهيل عمليات القروض بحثاً عن الربح السريع والخيالي الآني دون الأنتباه إلى حجم المخاطر المحدقة بهم، أو من جانب رابع، إن النظام السياسي الأقتصادي المالي الأميركي فشل في ضبط آلية الرأسمال المالي لدى فئة قليلة من الأثرياء الذين استهتروا بكل المعاني الأجتماعية أعتماداً على سياسة براجماتية خاصة ndash; بيرس، وليم جيمس، جون ديوي - وأنتهزوا ضعف القانون لإحراز أكبر كمية ممكنة من الأرباح الرقمية. ومهما تكن العلل والدواعي، فإن هذه التفاسير عاجزة عن تأطير الأزمة المالية الحالية لأنها تبحث عن سبب أو أسباب بشرية، خارجية، غير بنيوية، تكنيكية، معاملاتية، قشورية، ولاتفتش عن العلاقة ما بين الرأسمال المالي والشروط البنيوية في الدولة الرأسمالية، حيث إن الأمر هو بالضرورة على هذه الصورة الأخيرة، لأن من أهم مزايا الرأسمالية حسب المفهوم الأقتصادي الماركسي وفي هذا المجال تحديداً، تعلقها البنيوي بالأستغلال، والتضخم والتمركز المالي، وقيادتها للدولة وللبنى التحتية، وإملاء شروطها التركيبية الخاصة على مؤسسات المجتمع والدولة. ولايخفى على أحد إن الرأسمالية قد دخلت منذ سنوات عديدة في مرحلة ما أسميه ndash; التكاثر المالي اللاطبيعي ndash; وبرز على أثره مفهوم الرأسمال المالي بجبروت يفوق أضعافاً مضاعفة ما كان يتمتع به قبل هذه المرحلة. ومن يدرك العلاقة ما بين محتوى الأسم والمفهوم ( التكاثر اللاطبيعي للرأسمال المالي )، يدرك أيضاً أن مقولة الأنتاج كمفهوم تاريخي أقتصادي قد تراجع وتقهقر خطوة إلى الخلف ليخلف وراءه إشكالية كبرى في الأقتصاد الرأسمالي وخلل قاتل في العلاقة ما بين تاريخانية مفهوم الأنتاج الصناعي ورأسماله الموازي. كما أن من يدرك العلاقة الجدلية ما بين محتوى الأسم والمفهوم، يدرك أيضاً إن الرأسمال يتضخم تقليدياً بواسطة الخارج والداخل، خارجياً بفضل نهب ثروات الدول النامية وإفقار شعوبها إلى حد الإملاق ( وما تمارسه إيران في العراق وفي المنطقة برمتها يقترب من هذا الهدف المشؤوم ) وممارسة سياسة براجماتية خاصة لتذليل الأنظمة ( التي هي بالأساس مستعدة لهذا الإذلال لأنها في معظمها أنظمة مستبدة لاتتمتع بالشرعية، ومايجري في سوريا هو خير شاهد على ذلك )، وداخلياً بفضل الأنتاج الصناعي المتطور والأنتاج البضائعي التقليدي والقيمة الخدماتية للمؤسسات والمنشآت العامة وكذلك قيمة الرأسمال في مجالات ( القروض، البورصات، الرهون العقارية )، وعندما تحول الرأسمال التقليدي المعتمد على أسس الأقتصاد الكلاسيكي ( ريكاردو، آدم سميث ) إلى رأسمال مالي بفضل تلك المجالات الأخيرة، برز مفهوم جديد للأقتصاد يتحرر من التبعية المطلقة للعامل الخارجي ( الأسواق الخارجية، الأستمرار في نهب ثروات الدول النامية )، ينفلت من الشروط التي كانت تكبله في الداخل ( الأنتاج ومشاكله، والتسويق وهمومه، وأتباع الدورة الصناعية الكاملة والمتوازنة وقيودها )، ويستفيد ( بل يستغل ) عدة قضايا منها على سبيل التوضيح والتبيين، القضية الأولى : القانون. إن الدول الرأسمالية تعتبر من الزاوية الدستورية دول قانونية في الأساس الإداري، في أساس الجريمة، في أساس التعامل الأجتماعي، في أصل الضمان الأجتماعي، وطالما إن الدولة والمؤسسات والشركات والأتحادات ملتزمة بالدستور والقانون، وطالما إن الأفراد والمعاملات والبورصات والقروض والأسواق والتعامل المصرفي ملتزمة بالقانون، فلاقيود أخرى ولاجريمة محاسبة عليها ولاتثريب ( لاضرر ولا ضرار )، وطالما إن أصل القانون في الدول الرأسمالية راع لمفهوم الفرد وخاضع لسطوة الرأسمال ويمكن دائماً طيعه وتفسيره لمصلحة المؤسسات، ندرك مدى قدرة الرأسمال في الأستفادة من تلك القوانين. القضية الثانية. إنحسار تدخل الدولة وغياب القيود. الأسواق المالية والمعاملات المصرفية في الدول الرأسمالية إنفلتت منذ سنوات من عقال القيود وإنحسرت سلطة الدولة في هذا المجال، مما منح المزيد من الحركة والتوسع غير المنضبط لأصحاب الرأسمال وللرأسمال المالي نفسه، ولهذا برز مفهوم إن الدولة في بعض المجالات راضخة لسلطة الرأسمال المالي وهي تتبع أصول قواعد اللعبة الأقتصادية المالية رغماً عنها طالما أنها لاتملك شروطها وقيودها على تلك الأصول، ولهذا برزأيضاً مستثمرون وبنوك وسيطة في الولايات المتحدة الأميركية ليس فقط لتنشيط المعاملات الأقتصادية وتحقيق أزدياد سريع في الأرباح إنما أيضاً لتوزيع المسؤوليات القانونية وأدوارها ( وهذا ما أشار إليه الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي في مدينة تولوز الفرنسية إبان زيارته الأخيرة لها ). القضية الثالثة : أساس الدولة. الدولة في النظام الرأسمالي ليس إلا جهازاً يقتفي أثر المد والجزر للقوة المالية العامة التي تتمثل في هذه المرحلة بالرأسمال المالي، لذا ندرك ndash; وهذا منطفي في هذا المستوى الخطير من الأزمة ndash; لماذا أغرقت الدول الأسواق بالأموال النقدية المالية، وأممت مصارف عديدة، وساهمت ( الولايات المتحدة الأميركية، بريطانيا، فرنسا، هولندا، بلجيكا...) في حماية مصارفها الخاصة. القضية الرابعة : الديمقراطية وعلم الأجتماع. إن الديمقراطية المنفلتة من كل حساب ورقيب في المجتمعات الغربية في المرحلة الحالية تؤثر سلباً على مصداقية علم الأجتماع، وقد يُفهم من هذا أننا ضد مبدأ الديمقراطية لاسمح الله، كلا بالعكس تماماً أننا نريد أن يُضفى على الديمقراطية البعد الأنتروبولوجي الصادق المرتبط أصلاً وتأصيلاً بمفهوم الحرية، فكما ينبغي أن تكون الحرية وحدة واحدة متكاملة على الديمقراطية أن تكون كذلك، دون ذلك تعيش المجتمعات حال أنهيار كارثوي وحالة تفكك شبه مطلق ( المجتمعات الرأسمالية الغربية )..إلى ذلك، ومن مجمل ما ألمحنا إليه، نعتقد بجزم إن الرأسمال المالي ومن خلال كل العوامل التي تنهي حالة الأجتماع وحالة الترابط في الغرب سوف يسبب حالة تفسخ في النظام الرأسمالي العالمي الذي لايمكن في المدى المنظور تجاوز ذاته نحو آفاق جديدة، اللهم إلا إذا أستجدت معطيات تاريخية أجتماعية أقتصادية ليست جديدة فقط إنما مستعدة أن تغير أصول حياتنا مع قدرتنا على العيش فيها من كافة الزوايا والصعد، وهذا ما يبدو لي ضرب من المحال المنطقي الأقتصادي... أم أن الرأسمالية سوف تنتحر على قارعة رصيف مهجور.

هيبت بافي حلبجة