الشهر الماضي تعرضت سوريا حبيبة كل العرب لطعنتين.
الأولى في الظهر يوم 26/10/2008 أكتوبر عندما قتل quot; مغاويرquot; الجيش الأمريكي مدنيين عزّل في قرية البوكمال، مثيرين موجة من السخط والاشمئزاز من المحيط إلى الخليج، وليس فقط على الحدود السورية العراقية.
الطعنة الثانية تلقتها في الصدر يوم الأربعاء،29عندما أدانت محكمة صورية رياض سيف رئيس مكتب أمانة إعلانquot; دمشق quot;، و فداء أكرم حوراني رئيسة المجلس الوطني، وأميني سر المجلس أحمد طعمة و أكرم البني، و أعضاء الأمانة العامة علي العبد الله و جبر الشوفي و ياسر العيتي، وأعضاء المجلس الوطني طلال ابودان ووليد البني و محمد حجي درويش و مروان العش وفايز سارة.
طعنتان تندرجان في سلسلة طويلة من الطعنات للمحتلّ الداخلي والعدوّ الخارجي.
فالمحاكمة الأخيرة حلقة من سلسلة المحاكمات الطويلة...وراء هذه المحاكمات الصورية، ثمة ظروف الاعتقال، وظروف التعذيب، وظروف سجن الآلاف من خيرة أبناء سوريا...ووراء كل هذه الفظاعات ثمة مجازر حماة وحلب والأخرى التي لم نسمع بها...كل هذا لترويع الشعب السوري وتركيعه حتى يقبل مكرها بمصادرة كرامته وحريته وثرواته... بالفساد والظلم والتزييف والفقر... دون قدرة محاسبة أحد أو تصحيح خلل.
وعلى الطرف الآخر، الهجوم الجبان على البوكمال آخر حلقة مما يكلفه العدوّ الخارجي لسوريا...بعد كل الحروب المخسورة ضد الصهيونية...بعد فقدان الجولان...بعد الهجومات الجوية على ما سمي المفاعل النووي السرّي...بعد تكاليف الحمل الثقيل لمئات الآلاف من اللاجئين العراقيين، وسيذكر التاريخ العربي للشعب السوري أنه الشعب الوحيد الذي فتح قلبه وذراعيه للشعب الشقيق وهو في النازعات غرقا.
لقائل أن يقول أن وضع الطعنتين على نفس المستوى أمر مناف للمنطق، لا لشيء إلا لأن من سمح بوجود اللاجئين العراقيين هو النظام.
لكن ليتمهّل من لا يفهمون أن الوطنية ليست الولاء للنظام وإنما الموطنية حتى لا تحجب عنهم الشجرة الغابة.
ليتذكروا فقط عدد الذين اغتالهم وعذبهم وأرهبهم النظام الاستبدادي على مرّ العقود الأربعة الأخيرة، وليزنوه بعدد ما قتل الأمريكان والصهاينة في نفس الفترة.
ليتذكروا العدد الأكبر لكل من ألزمهم رعب المخابرات بيوتهم وعقل ألسنتهم وجمّد طاقاتهم.
وإذا أصروا على أن التعذيب الوطني والقتل الوطني والسجن الوطني خير وأبقى من تنكيل الأجانب واحتلالهم المباشر فليكن لهم هذا الخيار يتحملون وحده مسؤوليته.
وللذين لا يزالوا يتوهمون أنه بمثل أداة الدولة الاستبدادية ستتطور سوريا إلى درجة قدرة مواجهة التحديات الخارجية، يرجى العودة لخطب النظام وانجازاته الفعلية.
ليضعوا نصب أعينهم المثال الليبي حين تهدد عنق سيده الحبل الذي لفّ عنق صدام حسين، فترك جانبا الثورية والوطنية والقومية وارتمى على أقدام اسياده مقدما كل الخدمات مقابل إطلاق يده في قطيعه ومزرعته الوطنية. وهذه الأنظمة الغربية التي تتشدق بالديمقراطية وحقوق الإنسان تتسابق بينها لإعطائه كل المكانة التي لا يستحق ضاربة بعرض الحائط شعارات زائفة تموّه بها على شعوبها وشعوبنا.
لن يختلف الأمر في شيء غدا في سوريا أو مصر أو أي قطر عربي آخر محتلّ من طرف دولة خصخصتها العائلات و عصابات الحق العام. سيبيعوننا بقشور اللفت وسيجدون من يشتري.
وضع لا تحسد عليه لا سوريا حبيبة العرب، ولا كل أقطار الأمة، وهي بين المطرقة والسندان... وهي بين فكي نفس الكماشة القاتلة.
وضع أصعب هو الذي يواجهه كل الذين وضعت الأقدار على كاهلهم مهمة ترجمة آلام وآمال شعوبنا وأمتنا وقيادة خطاها المتعثرة نحو برّ النجاة.
فباسم الوطنية ومحاربة العدو الخارجي، ثمة من يريدون التغاضي عن جرائم نظام الاحتلال الداخلي، وهذا طريق لا يؤدي إلا إلى دوام الداء الذي جعل أوطاننا لقمة سائغة لكل من هبّ ودبّ.
وثمة من يريدون باسم محاربة الاحتلال الداخلي الاستعانة بالمحتلّ الخارج متناسين كارثة العراق.
قدرنا جميعا، وفي سوريا حبيبة العرب، بالذات، رفض الانخراط في أي من التوجهين
والقبول بأن حربنا ضد المحتلّ الداخلي تمرّ برفض كل تعاون مع المحتل الخارجي، وحربنا ضد المحتل الخارجي لن تربح إلا يوم نكسر شوكة المحتلّ الداخلي.
نعم، حتى لا نظلّ الطريق يجب أن نتوجه دوما إلى حيث تشير بوصلة التجارب
ولسان حالها يقول : لا تساهل مع المحتل الداخلي ولا تواطؤ مع المحتل الخارجي فهما وجها نفس قطعة النقد: استغلال الأرض والعرض لمصلحة قلة على حساب بشر ولدتهم أمهاتهم أحرارا وجعلوا منهم عبيدا سموهم للسخرية و الشماتة مواطنين.
تحية إكبار لأسرى حرب الاستقلال الثاني رياض سيف، و فداء أكرم حوراني أحمد طعمة و أكرم البني، و جبر الشوفي و ياسر العيتي، طلال ابودان ووليد البني و محمد حجي درويش و مروان العش و فايز سارة وكل القابعين في سجون الاستبداد السوري والعربي.
رحم الله شهداء البوكمال...آخر ضحايا غباء الإمبريالية الأمريكية...هاته الامبريالية التي أشهرت إفلاسها الأيدولوجي في وال ستريت الشهر الماضي ـ في نفس الوقت الذي اشهرت، بقتلها المدنيين العزّل في البوكمال وفي قرى باكستان وأفغانستان وقبلهم المائتي ألف مدني عراقي، إفلاسها الأخلاقي.
د. منصف المرزوقي
التعليقات