الموصل واحدة من أجمل مدن العراق وأكثرها اختلاطا وتمازجا في الأجناس والأعراق والأديان، إن لم تكن أجمل مدن العالم لو لم تخضع باستكانة إلى ثقافة الإقصاء والتسلط الشوفيني والاستعلاء القومي المقيت الذي استهدف هذه المدينة العريقة منذ مطلع الستينات من القرن الماضي وحتى يومنا هذا، وأبلى فيها بلاء الفايروسات في جسد يكاد يفقد المناعة والمقاومة إزاء هجمة بربرية استهدفتها ومسخت هويتها الحضارية المعروفة في انتمائها إلى المهنة والمهارة وتقديس العمل والأصالة المدنية ومقتها لثقافة القرية والبداوة والعشائرية والعنصرية العرقية أو التطرف الديني أو المذهبي.


هذه المدينة التي بنت حضارتها على أجمل فنونها وفلكلورها وصناعاتها وإنتاجها الزراعي والصناعي والحرفي على أيدي سكانها الذين منحوها هويتها العراقية منذ أكثر من ثمانين عاما من الكورد والعرب والتركمان والكلدان والأرمن ومعتنقي الإسلام والمسيحية واليزيدية، وأعطوها خصوصية تكاد تنفرد فيها لا في العراق فحسب وإنما في المنطقة عموما.


وقد عاشوا على ثراها آلاف السنين اختلطت فيها دماؤهم وأنسابهم وعاداتهم وتقاليدهم ولهجاتهم حتى ظهرت خصوصية الموصل في كل مناحي الحياة؛ لغة وأدبا وفنا وفلكلورا وصناعة وتقاليد بما منح هذه المدينة انتماءا تجاوز أصول سكانها العرقية أو الاثنية أو الدينية، فيكفي أن تكون موصليا لتعوض عن كل انتماء أو طبقة أو دين، حيث التميز في العمل والدقة في الأداء والجماليات في الإبداع والجدية في تنفيذ الأعمال وانجازها.
هذه المدينة التي تجمع بين ظهرانيها وعلى ضفتي النهر الخالد كل أجناس البشر هنا في العراق وممن مروا على ارض بلاد ما بين النهرين سلما أو حربا منذ آلاف السنين، أقاموا فيها إمبراطورياتهم وحضاراتهم وتركوا على ثراها أجمل آثارهم، أعراقا وأجناسا وديانات ومذاهب جمعتهم هذه المدينة وهي تترفع عن العرقية والتطرف الديني أو المذهبي حتى جاءتها موجات الهمج الشوفينية حينما استصغرت واحتقرت مكونات الموصل الأساسية والأصيلة من الكورد والكلدان والآشوريين ومعتنقي المسيحية والايزيدية، وأطلقت عليهم شتى الأوصاف والتقريع والاستصغار وإيحاءات التشويه والانتقاص وابتداع قصص من خيال مريض بعنصريته وشوفينيته وشعوره بالنقص تجاه الآخرين، ولعل قصة ذلك ( العفري ) نسبة إلى مدينة تلعفر الذي تحول إلى حمار في أذهان أولئك العنصريين الشواذ حينما ادعت مجموعة من الشوفينيين إن مواطنا من أهالي تلعفر قد تحول إلى حمار وتم نقله إلى مركز الشرطة العام في وسط المدينة ومن ثم تم نقله إلى محطة القطار!


هذه القصة المثيرة للتقزز والاستهانة بكرامة الإنسان والانتقاص من قيمته العليا التي كرمه الله فيها، أرادوا بها اهانة ذلك الإنسان الحيوي الطيب من أهالي مدينة لا تعرف إلا العمل الدؤوب والإنتاج المبدع، لقد كانت تلك القصة البائسة واحدة من بدايات الاستهانة بالآخرين والتي سبقها طوفان من التوصيفات المهينة للكردي والمسيحي والايزيدي، ولعل توصيفهما بــ ( برجة كغدي أو برجة نصغاني ) كناية بتصغيرهما والاستخفاف بإنسانيتهما تدلل على تلك العقلية الشوفينية التي أدت إلى اغتيال وتصفية الآلاف من الكورد ومعتنقي المسيحية والايزيدية والشيعة على أيدي الحرس القومي ومن بعده الجيش الشعبي ومؤسساته القمعية وصولا إلى ما فعله نظام صدام حسين وحزبه في ترحيل آلاف العوائل من الشبك والتسبب في تهجير آلاف من عوائل المسيحيين إلى أوروبا في حقبة السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، إضافة إلى جرائمهم تجاه الكورد وما يجري اليوم من عمليات تطهير وديني ومذهبي وعرقي ضد الكورد ومعتنقي المسيحية والايزيدية ما هو إلا نتاج تلك الثقافة العنصرية المقيتة، حيث سبقتها عمليات منظمة لتدمير الكنائس والأديرة والبيوت خلال السنوات الماضية والتي أخذت منحى خطيرا هذه الأيام، وبالذات بعد تصريحات ثلة من أعضاء مجلس النواب الحاملين لفايروسات النظام السابق ونظرته إلى الأطياف المختلفة في الموصل ومنذ عدة أشهر حول قوات حرس الإقليم ( البيشمه ركه ) العاملة في المدينة وأطرافها بطلب من الإدارة الفيدرالية ووزارة الدفاع ومتعددة الجنسيات لحماية السكان المدنيين من الهجمات الإرهابية، كما يتضح من خلال تصريحاتهم في الدفاع عن أعمال الإرهابيين وذلك بادعاء إن كل هذه العمليات في التفخيخ والأحزمة الناسفة وتقتيل الكورد والمسيحيين والايزيديين إنما تقوم بها قوات البيشمه ركه الكردية(!).


ولعله من المفيد أن يتذكر الجميع ما أدت إليه تصريحات هذه المجاميع في إحداث الفتنة الطائفية بين السنة والشيعة من خلال إعلامها في هيئة علماء المسلمين وبقايا النظام السابق وعناصره ممن اخترقوا أجهزة الدولة الحديثة، والتي كادت أن تدمر العباد والبلاد لولا حكمة هذا الشعب وأصالته، وها هي بعد فشلها في إدخال عصابات الجريمة المنظمة من كل شتات الأرض لتلك الفتنة تعاود تكتيكاتها المفضوحة لإحداث فتنة إسلامية مسيحية أو كوردية عربية. وهنا أيضا علينا أن نستدرك ما فعلته ماكينة الأعلام العربي من فضائيات وصحافة الكترونية وورقية حينما أعلنت الحكومة العراقية نيتها تطهير الموصل من الإرهابيين والتكفيريين وأزلام النظام السابق في مطلع العام الجاري.


وقد سبقت هذه التكتيكات أوسع عملية تضليل للرأي العام وتشويه للحقائق وتهيئته لقبول عمليات الانتقام المنظم والتطهير العرقي والديني في الموصل وذلك من خلال اتهام الكورد بإدخال الأمريكان وتسهيل مهمتهم في احتلال العراق وقبول المسيحيين بهذا الاحتلال والتعاطي معه على خلفية دينية حسب أهوائهم المريضة والمهوسة بالتطرف ومعاداة الآخرين، ويتذكر الموصليون الاصلاء تلك الشعارات العنصرية التي كانت تكتب على جدران الأبنية في كل المدينة والتي تساوي بين الكورد واليهود تارة وبينهم وبين الصهيونية تارة أخرى وكذا الحال مع المسيحيين والشيعة وحتى مع بعض العشائر كما فعلوا مع عشيرة شمر وشيوخها وأباحوا قتلهم أينما ثقفوهم، وتناسوا إن من أدخل الأمريكان هم أولياء نعمتهم من البعثيين وقياداته ومراجعهم التي أدخلت أكثر من ثلاثة وثلاثين جيشا ( استعماريا ) إلى ارض العرب في الخليج وأرض الأنبياء في العراق، وليس الكورد أو المسيحيين أو الشيعة، وهم الذين استقبلوا الجنرال بيترايوس قائد الفرقة الأمريكية الرابعة في بيوتهم وتعليلاتهم في أول أيام الاحتلال الأمريكي للموصل للتقرب من مركز القرار والصعود إلى درجات السلطة على أكتاف المحتل وكأنهم يعيدون أحداث التاريخ أيام الاستفتاء على عائدية الموصل مطلع العشرينات من القرن الماضي في وقوفهم مع الأتراك يومها، وليس الكورد كما يضللون الرأي العام ويهيؤنه لأبشع عملياتهم بعد الأنفال وحلبجة في تهجير آلاف العوائل الكوردية والكلدانية ومعتنقي الايزيدية والمسيحية وعشائر الشبك وشمر من مدينة الموصل إلى مناطق كوردستان الآمنة الأخرى؟

كفاح محمود كريم