عند التفريق بين القرآن الكريم وبين اللغة التي نزل بها لابد من معرفة بعض الأسباب التي تجعل المعجزة ذات مشروعية مغايرة للصناعة التي يمتلكها القوم الذين وقع عليهم التحدي الذي جاءت به المعجزة، أما إذا حصل التكافؤ بين المعجزة وبين من وقع عليهم التحدي فهنا لابد أن تفقد المعجزة الإمتياز الذي يؤهلها للقيام بدور التحدي المتقن الذي كلف به من جاء بها.

إذاً لابد هناك من مميزات للإعجاز تكون على رأس الخطوط التي إستقر الطرفان عليها، الطرف المتحدي والطرف المتحدى، ولذلك فإن الزيادة التي إستقرت في الرأس الذي أشرنا إليه لابد أن تكون مختلفة تماماً عن الخطوط الأولى التي بدأ منها عنوان التحدي، وإلا فقدت المعجزة مشروعيتها ومصداقيتها التي يجب أن تتغلب على ضوئها في النهاية حتى يتم تصديق أؤلئك القوم الذين وقع عليهم الإختيار في إرسال صاحب المعجزة.

أما إذا سلمنا في التشابه في جميع المراحل فقد يفقد التحدي مفهومه وبالتالي فإن جميع المصاديق التي تفرعت عن ذلك المفهوم تفقد الغرض الذي يجب أن تكون عليه، وبالتالي تصبح الرسالة عرضة للطعن لكل من أراد النيل منها، فعلى سبيل المثال فإن ناقة صالح وإن كانت مشابهة للنياق الأخرى إلا أن لها مميزات فرقتها عن باقي النوق، وأهم تلك الفوارق أنها ولدت من دون رحم إضافة إلى أن خروجها كان من خلال صخرة في الجبل وكذلك فقد خصص تعالى لها شرب يوم من الماء ولهم شرب يوم آخر وهذا ما يتعذر على النياق الأخرى، كما قال تعالى: (قال هذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم) الشعراء 155. وكذا قوله: (ونبئهم أن الماء قسمة بينهم كل شرب محتضر) القمر 28.

وهذه الميزة الإضافية تجري في جميع المعجزات التي أيد بها الأنبياء وإن حصل التشابه من وجه. لذا إقتضت حكمة الله تعالى أن يؤيد رسله بمعجزات يألفها أقوامهم من حيث المبدأ مع ظهور إمتياز آخر أشبه بالزيادة التي تكون على الأصل الذي نبغ القوم فيه.

ولا يمكن أن يستقيم التحدي بنفس القوة والفعل ما لم تتحقق تلك الزيادة وإلا أصبحت المعجزة بمرور الزمن المقرر لبقائها كالصناعة التي إعتاد عليها القوم الذين وقع عليهم التحدي، ومن هنا نلاحظ الإختلاف الذي ميز معجزات الأنبياء سواء كانت معجزاتهم من جنس المألوف أو لم تكن، إضافة إلى ذلك فإن معجزات الأنبياء الذين أرسلهم الله تعالى للأمم السابقة لا تعتمد على مسار واحد، بل تتشعب لتكون حجة على جميع من شاهدها وأقر على حقائقها.

فعلى سبيل المثال المعجزة التي جاء بها موسى والتي تجسدت في العصا بجميع مميزاتها التي تفوقت على صناعة السحر، التي جعل تعالى لها بعض المهام وأولها ماحدث عند إستعراض السحرة لحبالهم وعصيهم كما قال تعالى: (قال ألقوا فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم) الأعراف 116.

والذي يظهر من سياق الآية أن السحرة كان لهم تأثير على أعين العامة من الناس ولذا فإن السحرة هم أول من آمن بمعجزة موسى لعلمهم بحقيقتها التي لا يمكن للعامة التوصل إلى الفرق بينها وبين العصي الأخرى من حيث التفوق الذي ربما يحسب بنظرهم لجنس آخر من السحر، وفي هذه الحالة لا بد من إضافات أخرى خارجة عن المألوف الذي علمه السحرة دون العامة من الناس ومن هنا جاء تأييد موسى بمهام أخرى لتلك العصا، كإنفجار العيون من الحجر كما قال تعالى: (وإذ إستسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً قد علم كل أناس مشربهم...........الآية) البقرة 60. وقريب منه الأعراف 160.

ومعنى العامة ظاهر في قوله: [قد علم كل أناس] فتأمل. والمهمة الأصعب التي جمعت الأطراف كلها تمثلت في ضرب البحر بالعصا كما قال تعالى: (فأوحينا إلى موسى أن أضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم) الشعراء 63.

وعند التأمل في جميع المعجزات التي ظهرت لموسى نجد أنها تفرقت في التحدي منها ما تحدى به العلماء أي السحرة ومنها ما تحدى به عامة الناس وهكذا، ولكن الفرق بين معجزات الأنبياء ومعجزة النبي محمد (ص) والتي هي القرآن الكريم لا غير رغم أن هناك من ينسب للنبي (ص) معجزات أخرى إلا أنها ليست حجة علينا بقدر ما هي حجة على من شاهدها، وهذا ينطبق على جميع الأنبياء حيث أن معجزاتهم عصرية أي أنها حجة في زمانها، أما الذين لم يشاهدوا تلك المعجزات فلا يمكن أن تكون حجة عليهم، أما التصديق بها من عدمه فهذا أمر لا بد منه، بسبب ذكر القرآن لها.

فإن قيل: كيف يلزم أتباع أؤلئك الأنبياء بتصديق معجزاتهم؟ أقول: يلزمهم التصديق بها بنفس النسبة التي أمروا بموجبها بالدخول في دين الله لطالما ذكرت في القرآن الكريم.

ومن هنا يظهر أن إعجاز القرآن الكريم يتشعب إلى طرق مختلفة تحسب على ضوئها حجيته على قليلي الفهم وبنفس الوقت تكون له حجة أخرى على العلماء الأعلم فالأعلم، ولذلك نلاحظ بين الحين والآخر بعض الإعتراضات التي يتسائل أصحابها عن عدم الحاجة إلى التفسير باعتبار أن القرآن الكريم نزل بلغة العرب وعلى نفس قواعدهم فلا بد أن يفهم كما هو الحال في قراءة أخبار الصحف.

وربما يعذر هؤلاء لعدم إطلاعهم على أسرار القرآن الكريم مقارنة بالقواعد العربية، ولو بذلوا قليلاً من الجهد لفتح لهم كل يوم ما يضاف إلى فهمهم الساذج قبال كتاب الله تعالى لأن الإنسان كلما تبحر في العلم يكتشف أنه إزداد جهلاً في الأبواب الأخرى وهذا هو دأب أهل العلم ولذا قيل: إثنان لا يشبعان أحدهما طالب العلم.

عبدالله بدر إسكندر المالكي
[email protected]