قرأت نص المسودة النهائية للإتفاقية الأمنية المقترحة بين العراق وأمريكا.. قرأتها بتدبر وإمعان كي لا أقع في خطأ الحكم عليها عند التقييم والمناقشة، وكانت المسودة مكتوبة بلغة عربية سليمة، أفهمها وأستوعبها جيدا..
ورغم إعادة القراءة لعدة مرات علني أكتشف فيها ما يبرر مخاوف بعض القوى العراقية من تمرير هذه الإتفاقية الأمنية المهمة والمصيرية بالنسبة للعراق، ولكني لم أجد فيها ما يثير المخاوف من مستقبل البلد، خصوصا وأن الإتفاقية ستطبق لمدة ثلاث سنوات ومن حق الطرفين أن يعيدا النظر فيها سواء بالتمديد أو بالإلغاء إذا تطلبت الحاجة ذلك.

قرأت المسودة من بدايتها الى نهايتها فلم أجد فيها ما يمس بسيادة العراق ولا بإذلال شعبه، أو ما ينتقص من سلطة الحكومة العراقية في المستقبل، لذلك إستغرب كثيرا هذه الضجة المفتعلة تجاه الإتفاقية والأسباب الواهية لرفضها من قبل بعض القوى السياسية العراقية التي أحسب أن معظمها تؤيد في قرارة نفسها إبرام هذه الإتفاقية لأنها متيقنة بأنها تتماشى مع مصلحة العراق وتوفر أمامه سبل التقدم والإزدهار وتعطي إستمرارية للعملية الديمقراطية، ولكنها تخشى من ردود فعل الجماهير الشعبية في حال التصريح بالموافقة على تمرير الإتفاقية، فيجب أن لا ننسى بأن هناك شحن عدائي مستمر ضد أمريكا من بعض الأطراف السياسية سواء داخل العراق أو في الدول الإقليمية، والمشكلة في الشرق الأوسط عموما هي ذلك العرف السائد بأن كل ما يأتينا من أمريكا هو قبح في قبح، لأنها دولة إمبريالية وإستعمارية خصوصا بنظر البعض ممن لا يزالون يعيشون على أوهام الماضي ويتمسحون بتلابيب المجد الزائف الزائل للأمة العربية..

أن معظم المطبلين والمزمرين حاليا ضد الإتفاقية الأمنية يشبهونبإعتقادي بأولئك الأجداد من العراقيين الذين كان هواهم مع الحسين في ثورته وسيوفهم عليه، حتى تسببوا بمواقفهم المخزية تلك بمقتل الحسين الذي يندبونه الى يومنا هذا.
الإتفاقية ليس فيها ما يشين أو ينتقص من السيادة العراقية، بل على العكس أرى أن هذه الإتفاقية هي في حقيقتها ضمانة أساسية للحفاظ على سيادة العراق، ففي ظل ضعف الحكومة العراقية، وعدم وجود قوات أمنية مسلحة ومجهزة لدرء المخاوف والتهديدات المتواصلة عن العراق، ليس هناك سوى الإحتماء تحت الخيمة الأمريكية لضمان مستقبل أفضل للعراق طالما أن تركيبة الحكم فيه يستند أساسا على المحاصصة الطائفية، وهذا يعني عدم إستقرار الأوضاع في العراق الى أمد منظور في ظل غياب كابح أو رادع قوي بوزن أمريكا على الساحة العراقية.

لي الحق بأن أتساءل عما قدمته أو ستقدمه تلك القوى الرافضة في حال عدم إبرام الإتفاقية، وما هو البديل المتوفر عندها، خصوصا وأن العراق ما زال مكبلا بقيود دولية عديدة فرضت عليه بموجب البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة ؟؟..
إذا تمعننا في مسودة الإتفاق سنجد أن معظم بنودها تصب في صالح العراق، سواء من الناحية السياسية أو الإقتصادية أو الأمنية، بل حتى من الناحية اليئية التي تطرقت إليها تلك المسودة.
ومن خلال متابعتي لتصريحات المسؤولين العراقيين ومواقف الكتل السياسية الرافضة للإتفاق، وجدت أن النقطة الأكثر إثارة للرفض في تلك الإتفاقية تتركز بصورة أساسية حول الحصانة القضائية للقوات الأمريكية في العراق. فالمسودة تنص على أن يتمتع الجنود الأمريكان بتلك الحصانة داخل معسكراتهم، وأن يخضعوا بالمقابل الى الولاية القضائية العراقية خارجها، ولا أدري أين الخطأ في ذلك، فلو أخذنا بالحسبان أن كتلة سياسية مثل الكتلة الصدرية التي كانت لها محاكمها وقضائها وسجونها تفرض ولايتها القضائية على الناس والعباد،سنجد بالمقابل أن لدولة عظمى مثل أمريكا التي أرسلت مئات الألوف من أبنائها لتحرير البلد من أبشع دكتاتورية على وجه الأرض،وقدمت تضحيات تفوق خمسة آلاف قتلى وعشرات الألوف من الجرحى والمصابين، الحق أيضا في عدم إخضاع جنودها تحت قضاء من يعادون أصلا تواجدها داخل العراق، فلماذا يحق لقوة عراقية صغيرة مثل الكتلة الصدرية أن تنشيء دولة داخل الدولة، مستقلة بقضائها ومحاكمها وسجونها، ولا يجوز لأمريكا التي حررت العراق أن تحاسب جنودها وفق قوانينها وداخل معسكراتها وقواعدها؟؟!. إنها فعلا قسمة ضيزى ؟!.
والأنكى من ذلك فأنا أعتقد أن معظم الكتل والقوى السياسية العراقية المتواجدة على السلطة لها ولايتها القضائية الخاصة بها،فرغم أنها لا تملك سجونا خاصة ومحاكم تابعة لها، لكنها بتدخلها في شؤون القضاء وفرض إرادتها على إستقلالية القضاء فإن هذا التدخل لا يختلف كثيرا عن إمتلاك قضاء مستقل عن الدولة ؟؟!!.

على كل حال طالما أن الآراء والمواقف المتباينة المصرح بها لحد الآن تشي بوجود معارضة قوية للإتفاقية الأمنية، وبما أنني متأكد بأن العقبة الوحيدة أمام تمرير هذه الإتفاقية هي التخوف من ردود الفعل الشعبية، فأنا أضع أمام البرلمان العراقي إقتراحا للخروج من هذا المأزق وذلك بجعل التصويت على الإتفاقية داخل البرلمان بصورة سرية، خصوصا وأن للبرلمان العراقي تجربة سابقة في هذا المجال عندما طرحت المادة 24 من قانون إنتخابات مجالس المحافظات على التصويت السري من دون بقية مواد القانون عندما تصاعدت دعوات الرفض للقانون المذكور، وأعتقد بإن طرح مصادقة الإتفاقية على التصويت السري سيرفع الحرج عن جميع الكتل والقوى السياسية الراغبة فعلا في الحصول على ضمانات لمستقبل العراق، وسنضمن بذلك توثيق الموقف الحقيقي لتلك القوى والكتل تجاه الإتفاقية التي أعتبرها إتفاقية مصيرية بالنسبة للعراق.

شيرزاد شيخاني

[email protected]