ربع قرنٍ من الزمان، هو عمر ثورة الشمال الكردي، التي انطلقت في 15 آب 1984، والتي ارتبطت هويتها بإسم حزب العمال الكردستاني بزعامة عبدالله أوجلان، السجين الوحيد في حجرةٍ إنفرادية، بجزيرة إيمرالي الواقعة شمال غربي تركيا، النائية في عرض بحر مرمرة، منذ 15 شباط 1999.


ثورة الكرد الشماليين هذه، والتي لا تزال تسمى في أدبيات quot;الأصدقاءquot; المفترضين(وليس للكرد صديق سوى جبله)، كما في أدبيات quot;الأعداء المتحققينquot;، بquot;أعمال الشغبquot;، وquot;التمردquot;، وquot;الخروج على القانونquot;، وquot;الإرهابquot;...هي ثورة تريد لتركيا أن تكون quot;وطناً للجميعquot;؛ للكرد والعرب والأرمن والشركس واللاز والبلغار، والمسيحيين والعلويين والإيزيديين، وسائر أقلياتها القومية والدينية واللغوية الأخرى، أسوةً بأتراكها المسلمين، كبديلٍ ممكنٍ أو مرتجىً عن quot;تركيا واحدة لا شريك لها، للأتراك فقطquot;، المدشّنة وفقاً لنظريتها الفاشية القائمة على أساس quot;تركي يساوي العالمquot;، وquot;كم أنا سعيدٌ لكوني تركياًquot;، وquot;التركية هي لغة الشمسquot;...إلخ.

القائمون على إدارة دفة الثورة الكردية الشمالية، راهناً، الممثلون بقيادة الحزب العمالي وأجنحته الأخرى، سواء العسكرية(قوات حماية الشعب)، أو المدنية(كحزب المجتمع الديمقراطي الممثل في الداخل التركي ب22 برلمانياً بالإضافة إلى مؤسسات أخرى كثيرة)، لايطالبون لأكرادهم من تركيا بأكثر مما تنص عليه الصكوك والمواثيق الدولية، المنصوصة على حق الشعوب في تقرير مصيرها، بإعتباره أحد مبادئ القانون الدولي الأساسية، والذي ورد ذكره في ميثاق الأمم المتحدة(يُنظر القرار 2625/د 25، 24 الصادر في أوكتوبر 1970، والمادة الأولى من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، وكذا في الصكوك الدولية الأخرى، الخاصة بحقوق الإنسان(يُنظر إعلان الجمعية العامة بشأن حقوق الأقليات القومية والإثنية واللغوية والدينية، القرار 47/135، المؤرخ في 18 ديسمبر 1992).

العماليون الكرد الشماليون، أو الأوجلانيون(كما يروق للبعض أن يسميهم) لا يسعَون إلى quot;تقسيمquot; وquot;شرذمةquot; تركيا، أو إلى quot;كردستان مستقلةquot;، quot;منفصلةquot; عن تركيا(ها)، كما يقرأهم الآخر البعيد(الصديق المفترض ضمناً)، والذي ينظر إلى الكرد وقضيتهم الشمالية، عبر نظارات تركية أكيدة. وإنما يريدون لأكرادهم تركيا واحدة موحدة، مع أتراكها وسائر أقلياتها الأخرى، عادلة، داخلة في الحقوق؛ كل الحقوق لكل مكوناتها، وخارجة عن إستئثار العنصر التركي quot;الواحد الأحدquot; بكلها.

منذ ربع قرنٍ من الزمان الكردي، وتركيا تدّعي النصر التركي المظفر، وتكذب على أتراكها قبل أكرادها، بأن quot;الحزب الإرهابيquot;، وquot;أتراكه الجبليينquot;، المتمردين، على quot;الشمس التركيةquot; وquot;اللسان الشمسquot;، وquot;العدالة الشمسquot;، وquot;القانون الشمسquot;، وquot;التركي الشمسquot;، وquot;أتاتورك الشمسquot;، هم إلى زوالٍ مبين، وإلى quot;الجهنم التركيquot; وبئس المصير.

منذ ربع قرنٍ من الزمان الكردي في شماله، بالتمام والكمال، وتركيا تراهن على العسكر لمحو quot;الإرهاب الكرديquot; من الوجود التركي، وتكذب وتكذب وتكذب، إلى أن صدّقها أتراكها ومعها كل العالم بغربه وشرقه، تماماً مثلما فعلها غوبلز ألمانيا الهتلرية مع عالم النصف الأول من أربعينيات القرن الماضي، في الحرب الكونية الثانية.

منذ ربع قرنٍ من زمان quot;تركيا الكرديةquot;، وتركيا التركية ترفض الإعتراف بأي وجودٍ كردي، ولغة كردية، وهوية كردية، وحقوق كردية، وquot;تركيا كرديةquot;، في كل الخارطة التركية، رغم أن تعداد الأكراد يصل إلى حوالي 18 مليون كردي، من مجموع السكان البالغ تعداده حوالي 70 مليون بحسب إحصائيات 2005.

منذ ربع قرنٍ من زمان quot;كردستان العماليةquot; وquot;تركيا الحكومات المتعاقبةquot; ترفض الإعتراف بسياسة أوجلان الذي ألقى بظلاله على كل تركيا، فانشغل به أتراكها، فضلاً عن أكرادها، وهو الأمر الذي أدى بالبعض التركي قبل الكردي، إلى وصفه بquot;أتاكُردquot;(الأب الروحي للكرد) على قياس أتاتورك، تركياً.

منذ ربع قرنٍ من زمان quot;كردستان أتاكردquot; وquot;تركيا الأتاتوركيةquot; الرسمية تتشوفن(من الشوفينية) على أكرادها وأرمنها وعربها وسائر أقلياتها الأخرى، بإختزالها لكل تركيا في أتراكها quot;الشمسيينquot;، وكل لغاتها في quot;لغتها الشمسquot;، وكل هوياتها في quot;هوية الشمس التركيةquot;.

فماذا كانت النتيجة؟

نتيجة حصاد الحرب التركية ـ الكردية البيّنة، وصلت بحسب الإحصائيات الأخيرة إلى 37 ـ 40 ألف قتيل، فضلاً عن تدمير البنى التحتية، وآلاف مؤلفة من القرى الكردية الواقعة في الشمال الكردي(جنوب شرق تركيا).
تركيا الأتاتوركية(المدنية+العسكرية) راهنت على خطف quot;رأس الثورةquot; الممثل بأوجلان، لمحوها عن بكرة أبيها، فماذ كانت النتيجة بعد تسع سنواتٍ من تركيا الخاطفة، التي وعدت أتراكها بquot;سحق الإرهابيينquot;؟
النتيجة كما تقول كل الوقائع على الأرض، ووسائل الإعلام التركية ذاتها، هي أنّ أوجلان الزعيم وحزبه وأكراده وثورته وجبله ومدينته، باتوا أكثر حضوراً في تركيا من ذي قبل، وأكثر قبولاً في التركيتَين؛ تركيا التركية وتركيا الكردية، وأكثر لعباً في حلبات السياسة، سواء في الداخل الكردي، أو التركي، أو خارجهما.

الكل العلماني، سواء في الداخل التركي أو خارجه، راهن على حكومة رجب طيب أردوغان quot;المسلمةquot;، quot;المحجّبةquot;، وبشّر خيراً بقدوم quot;تركيا أوروبية جديدةquot;، بquot;إسلام ديمقراطي جديدquot;، حتى أخذت الحمية بالبعض العلماني(العربي حصراً)، إلى كيل المديح المجاني على الطالعة والنازلة لquot;الأردوغانيةquot; أو علمانية أردوغان quot;المسلمةquot;، التي quot;أدخلتquot;(بحسب هؤلاء) تركيا إلى quot;عهدٍ جديدquot; من الإقتصادات الجديدة، والمصالحات الجديدة، والصداقات الجديدة، مع quot;الأعداء السابقينquot;(يُنظر سمير عطاالله: الأردوغانية، الشرق الأوسط، 15 سبتمبر 2008).
هذا البعض النافخ في علمانية أردوغان quot;الوديعةquot; وquot;المتصالحةquot; وquot;المتصادقةquot; مع أعداء الأمس التقليديين، نسى أو تناسى، بأنّه كان من الأحرى بquot;سيد الأردوغانيةquot;، أن يتصالح مع تركيا(ه) في الداخل، قبل التصالح مع خارجها.

أردوغان طار إلى quot;صداقةquot; أرمينيا الخارج، دون أن يتصالح مع أرمنييه في الداخل.
أردوغان صافح أرمينيا أمام عدسات الكاميرات، ولكنه رفض بالمطلق، أمام الضمير العالمي، الإعتراف بعلاقة بلاده، لا من قريب ولا من بعيد، بمجازر الأرمن التي ارتكبتها تركيا(ه) ما بين 1915ـ1917، والتي راح ضحيتها حوالي مليون ونصف أرمني.
أردوغان فتح quot;الباب العاليquot; لتركيا(ه) على مصراعيه، أمام صداقاتٍ جديدة مع quot;الأعداء التقليديينquot;، ولكنه أغلق ذات الباب على quot;تركيا أكرادهquot;، ولم يتعامل مع القضية الكردية هناك، إلا من باب quot;الدعاية الإنتخابيةquot;، التي خدع بها أكراده المسلمين، أيما خديعة.
في زيارته الأخيرة قبل أيام، إلى مدينة آمد/ دياربكر الكردية، استقبلته جماهيرها الغاضبة هناك، بالكلام المغلق، والقلوب المغلقة، والشوارع والحارات وأبواب المحال المغلقة، والمدارس والجامعات والوظائف المغلقة.

أردوغان اعترف قبيل الإنتخابات البرلمانية التركية الأخيرة(22.07.07) بquot;وجود قضية كرديةquot; أو قضية quot;أكراد أتراكquot;، وخطب في جماهيره الكردية بذات المدينة، بأنّ الحل لهذه القضية هو في الداخل التركي، لا في خارجه، وهو في quot;المصارحة والمصالحةquot; مع تركيا الذات في الداخل، وليس في quot;مطاردتهاquot; في الخارج، ولكنه بدلاً من الوفاء بوعوده تلك لquot;تركيا أكرادهquot;، وبالتالي السعي إلى الحل ليكون طرفاً أو جزءاً منه في الأقل، أصبح كسابقيه، من رؤوس الحكومات التركية الماضية، طرفاً لا بل أساساً في المزيد من تفخيم وتفخيخ المشكلة الكردية، ومبادراً لصناعة المزيد من العداء والعنصرية والقتل، بين تركيا التركية وتركيا الكردية.
أردوغان وحكومته quot;المسلمةquot;، فشلا أيما فشل، في اختراق تركيا الأتاتوركية القائمة على الشعار الفاشي quot;تركيا للأتراكquot;، وسقطا سقوطاً ذريعاً، في وعودهما بالعبور إلى quot;تركيا للجميعquot;، كما وعد أكرادها وباقي مكوناتها الأخرى اللاتركية.

من هذا الباب، quot;الأردوغانيةquot; والأتاتوركية، هما وجهان لعملة واحدة، ولا فرق بينهما سوى الحجاب..المدرستان كلتاهما تركيتان، quot;صافيتانquot;، وتسعيان إلى quot;تركيا واحدة لا شريك للتركي فيهاquot;: quot;تركيا صافيةquot;؛ quot;تركيا نقيةquot;؛ تركيا داخلة في الأتراك فقط، وللأتراك فقط، ومن الأتراك إلى الأتراك فقط.
الطريق إلى التركيتين؛ الأردوغانية والأتاتوركية، هو طريقٌ يؤدي في المنتهى إلى أتاتورك الواحد الأحد، أباً روحياً لكلquot;تركي يساوي العالمquot;.

هذا الإصرار التركي، سواء عبر الحجاب أو عبر قبعة أتاتورك، على quot;تتريكquot; كل الشعوب التركية، واللاإعتراف بالهويات المختلفة، كالكردية والعربية والبلغارية واليونانية واللازية، في تركيا الداخل، هو إصرار غبي يؤدي إلى المزيد من quot;الآتيئيستية/ التأليهية القوميةquot;، وبالتالي إلى المزيد من النعرات القومية، والتركيات المتناحرة، داخل تركيا الواحدة.
الإصرار على quot;أتاتوركية تركياquot;، هو الذي أدى إلى بروز quot;أتاكرد كردستانquot;، ممثلاً في شخص الزعيم عبدالله أوجلان، الذي أصبح الآن في سجنه المعزول سيد الحل والربط في كل ما يتعلق بالقضية الكردية بتركيا.
تركيا العسكرية والمدنية، جربت quot;حلولها الأتاتوركيةquot; السريعة مع أكرادها الأخرين، عبر صهرهم في البوتقة الأتاتوركية، وإقناعهم بأنهم quot;أكراد أتراكquot; أو quot;أتراك جبليونquot;، ولهم اللسان التركي، والهوية التركية، وتركيا الجمهورية الأتاتوركية.. فدخل الكردي كquot;تركي جبليquot; في البرلمان والحكومة ومؤسسات الدولة الأخرى، ولكن تركيا بقيت لquot;أتاتوركquot;، مثلما القضية الكردية فيها، بقيت من دون حلٍّ لأكرادها.

بعد ربع قرنٍ من quot;تركيا الغبيةquot;، التي أصرّت على quot;تركيةquot; وquot;تتريكquot; أكرادها، ورفضت الإعتراف بوجود quot;شعب كرديquot; وquot;قضية كرديةquot;، بدأت الأصوات تتعالى في الوسط التركي الليبرالي، مؤخراً، منتقدةً بشدة quot;غباء تركياquot; وquot;سوء تصرفهاquot;، وquot;لاعقلانيتهاquot; في التعاطي مع داخلها الكردي.
من هنا يرى هذا البعض التركي الكاشف لعورات تركيا، من الضرورة بمكان البحث عن quot;تركيا عاقلةquot;؛ quot;تركيا منقذةquot;، تسعى إلى حل مشاكلها من الداخل التركي المستفحل، بدلاً من الهروب إلى الخارج، والركض ورائه.

هذه الأيام تغلي quot;تركيا الكرديةquot;، داخلاً وخارجاً، احتجاجاً على سوء المعاملة التي تعرض إليها أوجلان في سجنه على يد حراسه، كما أفاد محاموه.
الكل المتظاهر والمحتج والمندد والمتمرد، كردياً، سواء في الجبل(العمال الكردستاني وجناحه العسكري) أو في المدينة(حزب المجتمع الديمقراطي وأجنحته المدنية)، يسمي أوجلان مفتاحاً لقضية أكراده الشماليين في تركيا.
هذا يعني، حسبما تقول الوقائع على الأرض، سواء في الجبل أو في المدينة، أنّ طريق العبور إلى أيّ حل للقضية الكردية في تركيا، لابدّ من أن يمر بأوجلان، بإعتباره رأساً لها.

تركيا فشلت للآن، في خطف الثورة الكردية في الشمال(شمال ربع القرن الأخير) عبر خطفها لرأسها أوجلان، الذي تحوّل من رئيسٍ لحزب كردي quot;متمردquot;، إلى quot;أتاكُردquot; لكردستان الشمال في الأقل.

لتركيا أن تصر على إنكار quot;الوجود الكرديquot; وquot;القضية الكرديةquot;، وquot;اللاجلوسquot; مع أكرادها كما تشاء، ولكن تركيا الناكرة المصرّة هذه، لن تؤدي سوى إلى المزيد من quot;الإصرار والتمردquot; الكرديين، كما يقول الماضي والحاضر على مستوى التركيتَين، تركيا التركية و تركيا الكردية.
الإصرار التركي على سجن الثورة الكردية، عبر سجنها لرأسها أوجلان، لن يؤدي، كما تشهد التركيتان، الآن، إلا إلى المزيد من الثورة لنيل حريتها وحرية رأسها وأكرادها وشمالها.

من السهل جداً، بالطبع، لتركيا أن تعذب وتسمم وتصفّي وتقتل أوجلان، كما تشاء، وبالطريقة التي تشاء، ولكن من الصعب جداً عليها، أن تقتل quot;أتاكرديتهquot; في أكراده، أو تقتل الثورة في شمال هؤلاء، طالما ظلت كرديتهم quot;تركيةً جبليةًquot;، وحقوقهم عقوقاً أو صكوكاً مؤجلة إلى المستحيل من الزمان والمكان، وهويتهم quot;نكرةً منكرةquot; في تركيا الناكرة.

في مؤتمره الصحفي الأخير المشترك مع الرئيس العراقي جلال الطالباني، ورداً على سؤالٍ فيما لو كان حزب العمال الكردستاني، quot;منظمةً إرهابيةًquot; كما تصفها أمريكا وتركيا، أكد رئيس إقليم كردستان على موقفه المعروف سابقاً من قضية أكراده الشماليين، قائلاً: نحن لا نعتبر ال PKK راهناً منظمة إرهابية، طالما أن تركيا لم تتبنى الحل السلمي للقضية الكردية..إذا اعتمدت تركيا حلاً سلمياً للقضية الكردية ورفضته الPKK حينها سنعتبرها منظمة إرهابية، أما الآن فلاquot;.

العمال الكردستاني أعلن للآن خمس مرات(1993، 1995، 1998، 1999، 2006) وقفاً لإطلاق النار من جانب واحد، وأطلق مبادرات سلمية عديدة، بغية التوصل إلى حل سلمي لقضية أكرادهم، في إطار تركيا حقانية، عادلة، واحدة موحدة، ولكن الجانب التركي يصر على اللاحوار مع quot;تركيا الكرديةquot;، ويسلك القابضون على مفاتيح الحكم في التركيتَين، المدنية والعسكرية، طريق اللاحل لقضية أكرادهم.

والحال، فإنّ الكرة كانت ولا تزال في الملعب التركي، منذ أن أصبح لأكراد الشمال quot;قضيةquot; وquot;مشكلةquot; مع تركيا(هم).
أما إصرار تركيا الرسمية على quot;أتاتوركيتهاquot; الواحدة(تركيا واحدة، بعلم واحد، ولسان واحد، وأتاتورك واحد)، فلن يؤدي إلا إلى المزيد من quot;الإصرار المضادquot;، كردياً، على quot;أتاكردية كردستانquot;، وبالتالي إلى المزيد من الشرذمة في المكان التركي الواحد، والمزيد من الإقتتال بين التركيتَين: تركيا التركية وتركيا الكردية.


هوشنك بروكا


[email protected]