ما تزال تصريحات شيخنا الجليل الدكتور يوسف القرضاوي تتفاعل على غير صعيد، وتنتقل إلى غير مستوى، وتحرق غير فتيل. فالتصريحات لم تكن مسبوقة وبهذه الحدية والعلنية في الصراع الدينوسياسي التاريخي بين الفريقين اللدودين، وتكشف في أحد أبعادها، طبيعة وحقيقة تباين وافتراق سياسي بين فرقاء دينيين ما لبث أن أسبغ عليه طابعاً دينياً أخذ أبعاد قدسية، كما يوضح ذلك الكاتب المصري الفذ أحمد عباس صالح في كتابه الشهير ذائع الصيت quot;اليمين واليسار في الإسلامquot;، الذي ظل لفترة طويلة مرجعاً لتفسير طبيعة ذاك الصراع، واستمد كثيرون منه وجهات نظر مهمة في فهم ما جرى من تطورات.

وقد نسفت، في الواقع، تلك التصريحات تاريخاً وسلسلة طويلة من الجهود الحثيثة، لكن العبثية فيما يبدو، لتقريب وجهات النظر بين المذاهب الإسلامية، التي لا تقبل بنيوياً وإيديولوجياً، أي نوع من التقارب والتصالح، فتجذر الخلافات، وعمقها وتفاعلاتها السياسية والمجتمعية، أبعد من أية احتفالية أو بروتوكولية إعلامية، ومؤتمرات صحراوية تجري هنا وهناك. وبغض النظر عن هذا الجانب الهام في طبيعة الأزمة، ونعني الجانب العقائدي والإيديولوجي، والذي قد نفرد له، ربما، وبما يتيسر لنا من وقت، بحثاً خاصاً، ومهما يكن من أمر، وإن قصد الشيخ الجليل ذلك، أو لم يقصد، فإن حيزاً لا بأس به من تصريحاته المؤسفة، أتى في غير زمانه، ومكانه، ويمكن أن يستثمر سياسياً، ويوظف إعلامياً ويصب في طواحين الإدارة الأمريكية وربيبتها الاستيطانية إسرائيل وسياستهما العدوانية القهرية في المنطقة الرابضة على أكف عفاريت وجان السياسة المجانين. وبغض النظر عن تطرف وكالة مهر الإيرانية في ردها، وذهابها كثيراً في تحميل تصريحات الشيخ ما قد لا يكون قابلاً للتحميل، فنكاد نجزم، وبكل براءة وطيب وحسن نية، بأن الشيخ الجليل ليس ماسونياً بالتأكيد، وليس من مصلحته البتة إشهار quot;ماسونيتهquot; التي تنطوي في جوهرها، وكما نعلم، على السرية المطلقة في العمل والتصرف والتصريح.

وفي البداية لا بد من التمييز بين نوعين من التشيع، تشيع ديني تقليدي، وتشيع سياسي غير تقليدي أصبح رديفاً للمقاومة ومناهضة المشروع الأمريكي في المنطقة ويقف على النقيض من المشروع العربي الرسمي الذي أصبح رديفاً للإذعان والاستسلام، وبدأ - التشيع السياسي- يغير شيئاً فشيئاً من طبيعة الصراع والتحالفات وموازين القوى. غير أن ما نود التركيز عليه هو في طبيعة التشيع السياسي، وليس الديني الذي لا نوليه أي اهتمام، والذي أفضى- التشيع السياسي- إلى نوع من قلب التوازنات الاستراتيجية، وإحداث تغييرات نوعية في المنطقة عجزت عنها المؤسسة الرسمية العربية الإسلامية التقليدية، بطولها وعرضها، خلال صراعها الطويل مع إسرائيل. فقد قلبت إيران الخميني( وهذا كلام واقعي غير حماسي وقراءة موضوعية لواقع المنطقة الجيواستراتيجي بعد ثورة الخميني)، ميزان القوى لصالح القوى المناهضة للمشروع الصهيوني- الأمريكي وهو ما أحرج، حكماً، النظام الرسمي العربي بقضه وقضيضه، وجعله في حال المتهم والمشتبه به، والمدافع عن نفسه والعاجز أمامتفسير ظاهرة quot;المد الإيرانيquot;، الذي أصبح العدو الأول لأمريكا في المنطقة بعد حقبة عبد الناصر القومية التصادمية التي ألهبت مشاعر العرب والمسلمين في كل مكان. كما انطوى السلوك السياسي، والسيرة الشخصية النظيفة والنقية اللا إفسادية لمعظم القادة الإيرانيين، ( تكلف حفل زفاف ابنة أو ابن أحمدي نجاد 300 دولار أمريكي فقط لا غير ومن حر ماله ورواتبه وهذا الرقم في المقابل لا يقبله أشاوستنا ويشكل إهانة كبيرة لعرباننا لا يغسل هذا العار سوى إيداع ثرواتهم الخرافية في ليمان بروذرز التي تنهار فجأة وتتبخر في الهواء، وألف مبروك إنشاء الله، وبالهنا والشفا يا رب، والعقبى لغيرها)، والممارسة الديمقراطية السلطوية لإيران على قدر كبير من الحداثة السياسية quot;الغريبةquot; التي لم تعرفها المنطقة عبر تاريخها المظلم الطويل المليء بالاستبداد والممارسات الديكتاتورية والتنكيل.

وإن تتالي الانتصارات، والاختراقات الشيعية على الصعيد السياسي وتقديم الأنموذج البطولي والنضالي الواحد إثر الآخر، هي ربما ما جعلت الرعب يدب في قلوب الكثيرين ومنها قلب شيخنا الجليل، (يقال بأن ابن الشيخ نفسه الشاعر عبد الرحمن القرضاوي قد أغواه التشيع السياسي وسقط صريعاً في هواه). ومن ذلك مثلاً ظاهرة تبادل الأسرى، وإصرار حزب الله على تضمين قوائم المحررين لسجناء عرب من مختلف الطوائف والمذاهب والديانات في المنطقة، وإصراره على إطلاق سراحهم جنباً إلى جنب مع مقاتليه وأسراه، الأمر الذي جعل البعض يراقب المشهد، بشيء من الذهول وعدم التصديق على ذاك الأداء السياسي الرفيع، كما الإعلامي الذي كان حزب الله يمارسه على غير صعيد أبهر الشباب العربي والمسلم من المحيط إلى الخليج ناهيك عن دعم إيران لحركة حماس الإسلامية السنية التي يحاربها النظام العربي التقليدي علنا ويفرض حصاراً شائناً عليها.( فغالباً ما ترى رجال دين مسلمين سنة وغير مسلمين ولا شيعة، يشغلون أوقاتاً طويلة من بث قناة المنار الناطق الرسمي باسم حزب الله quot;الشيعي الأصوليquot;، بينما نرى قناة مثل الجزيرة تدعي وترفع شعار الرأي والرأي الآخر تقتصر فقط في برامجها الدينية أحادية الرأي على إطلالات سماحة الشيخ الجليل المتتالية أو غيره ممن يمثلون الفكر السلفي التقليدي، وتستكثر، وبالكاد والنادر ما ترى صوتاً شيعياً، أو مسيحياً، يقدم quot;طرطوشةquot; رأي آخر في قناة الرأي والرأي الآخر، ومعليش وما علينا، أليست قناة للرأي والرأي الآخر بمنظوره العربي الإنساني العريق؟(

وبالعودة إلى صلب الموضوع، فإن استمرار المد الشيعي السياسي، وليس الديني، ونركز على ليس الديني، هو ما أقض مضاجع شيوخ الإسلام من وعاظ السلاطين الناطقين الرسميين باسم النظام العربي الرسمي الإسلامي quot;التقليديquot; الذي شعر بأن البساط قد بدأ يسحب من تحت أقدامه، وأن quot;البلquot; قد بدأ يصل إلى ذقنه، وهو ما قد يؤدي إلى الإطاحة بالنظام الرسمي العربي التقليدي مرة واحدة وإلى الأبد، إذا ما استمر المد الشيعي السياسي يتصاعد بذاك المنوال وبتلك الوتائر العالية التي قلبت فعلاً موازين القوى لأول مرة في تاريخ ما يمكن أن نطلق عليه تجاوزاً بالصراع العربي الإسرائيلي لأنه ليس صراعاً عربياً إسرائيلياً كما يطنطن عتاولة القومجية العربية وكتبتهم الدراويش. ( ولقد أثلجت مثلاً صواريخ حزب الله صدر المواطن العربي بكل أطيافه وهي تمرغ في الوحل ولأول مرة الصلف والغرور الإسرائيلي، فيما كان النظام الرسمي العربي الذي يتحدث الشيخ الجليل باسمه، ويمثله، يدين تلك المغامرة أو المقامرة اللامحسوبة، وكانت تهديدات أحمدي نجاد وتبشيره بزوال إسرائيل، ورفض أزعومة المحرقة تشكل تحدياً حماسياً غير مسبوق للخطاب التضليلي الذي كان يمارسه النظام الرسمي العربي في موقفه المريب والمرواغ من إسرائيل).

إن التشيع السياسي الذي يستمد تراثه وسياساته من أدبيات الرفض التاريخي للمؤسسة الدينية كما الرسمية العربية والإسلامية، قد يمهد لتأسيس ثقافة الرفض والمقاومة مجتمعياً وهو ما عملت المؤسسات التسلطية التقليدية العربية والإسلامية على تفاديه تاريخياً، وسيعمل لاحقاً، على الإطاحة وتفكيك، ولا شك، لأسس ودعائم الكيان النظام الرسمي العربي المبني أساساً والموجود لحماية وصيانة أمن إسرائيل، والذي دأبت الإدارات الأمريكية المتعاقبة على رعايته وحمايته وترسيخه كنمط سلطوي نهائي غير قابل للتغيير في هذه المنطقة من العالم. وقد عبر جورج بوش عن ذلك علناً عندما اعترف بدعم الولايات المتحدة التاريخي ومنذ أكثر من ستين سنة للأنظمة الرسمية العربية. ومن هنا فقط فالتشيع السياسي هو خط أحمر ويجب وقفه وإدانته، لأن التشيع الديني، وفي بعده المذهبي والميتافيزيقي البحت، لا يختلف كثيراً، وبالعناوين العريضة، عن أي طرح ديني ولذلك، هو ومن حيث المبدأ، لا يخيف أحداً، لا النظام الرسمي العربي، ولا حتى الولايات المتحدة الأمريكية التي تقف خلفه، ولذا نرى تحالفاً وثيقاً مثلاً بين الإدارة الأمريكية والتشيع السياسي العراقي، بنفس قوة التحالف مع عتاولة النظام الرسمي العربي التقليدي.

ومن هنا فقط يمكن أن نقرأ ونفهم تصريحات وانتفاضة الشيخ الجليل الذي لم يكن يقصد منها أبدا أن تصب في الطاحون الإسرائيلي أو الأمريكي، كلا ولا وألف حاشا للشيخ الجليل.

نضال نعيسة
[email protected]