أتذكر أننا كجيل وفي بواكير تفتح وعينا على الثقافة والنضال في أواسط الستينات وبداية السبعينات،قريبون من اليسار بشكله العام ثم شيوعيون (وأحرار طلقاء فيما بعد) كنا لا نستطيع أن نفصل نضالنا كعراقيين عن نضال الشعب الكردي،ونعد الموقف من القضية الكردية وحلها على أساس حق الكرد في تقرير مصيرهم هو معيار تقدمية الإنسان ووطنيته أيضاً، وكنا نتحدث عن الشعب الكردي مع زعامته كشيء واحد لا يتجزأ،وكنا ندين ونشجب مواقف وممارسات حكامنا العرب الإجرامية بحق الشعب الكردي ونلعن عنصريتهم وشوفينيتهم!

ثم بالمعايشة الطويلة والتجربة ومسار الأحداث صرنا نكتشف أن ثمة عنصريين ومتعصبين ومتطرفين لدى الكرد لا يقلون غلواء عما لدى العرب! وإن هذه الشوفينية والعنصرية ليست مجر ردود أفعال بل هي متأصلة فيهم لتشبعهم بنزعة التسلط والاستحواذ والتوسع وهم يمارسونها ضد شعبهم أيضاً.فهم مثلاً يحاصرون الكرد الفيلية ويغمطون حقوقهم لما عرف عنهم من وطنية وحب للعراق وبروز مناضلين ومبدعين منهم لا يعرفون غير العراق وطناً لهم رغم ما وقع عليهم من حيف وجور!

ومع ذلك لم يخف دعمنا للشعب الكردي من أجل نيل حقوقه المشروعة،ولم تتأثر صداقات ورفقة طريق طويلة لنا مع أخوة كرد وقد صار كل منا يقدر: أن أية ممارسة عنصرية من هذا الجانب أو ذاك لسنا مسؤولين عنها ولا نتحمل وزرها إلا إذا سكتنا عليها أو وجدنا لها تبريراً!

ورغم تعاقب العهود وتكشف الكثير من الخفايا ظل موقفنا القديم من القضية الكردية كما هو في جوهره وأسسه لكنه صار محكوما بالكثير من الشروط والاستدراكات والتطور الحيوي،وهذا يعود أيضاً إلى أن قادة الكرد خالطت مواقفهم في الحقب الأخيرة الكثير من الشروط والاستدراكات والتطور الحيوي، وغير الحيوي!

لكنا أبقينا على صداقاتنا كعرب وكرد وكل منا ظل متفهما ً لموقف الآخر مؤمنا أن كل منا هو مع الآخر في روحه وعقله ويكن له كل الاحترام والأماني الطيبة! ولكن العنصريين الكرد ازدادوا بعدا وجفاءً ،بل حقنوا أنفسهم ومن حولهم بكراهية لكل من لا يتطابق معهم في الرأي،أو يقرهم على جرائمهم وانتهاكاتهم وصاروا لا يقبلون بأقل من التوقيع لهم على أوراق شراهتهم وجشعهم وتزكية كل أعمالهم وتصرفاتهم المشينة والملتوية، وإلا فالتهم جاهزة : بعثي ،صدامي ،شوفيني،عنصري،إرهابي وبالتالي عدو حقيقي يجيب تصفيته!

لقد أثار مقالي (قادة الكرد في زمن الكوليرا) في إيلاف هؤلاء العنصريين فهوشوا وهددوا في حقل التعليقات،ولم يكفهم ذلك فتمادوا مستعملين التلفون في التهديد والوعيد ليروعوا عائلتي ثم شرعوا بالقيام بأعمال دنيئة حولي موحين أنهم جادون في تهديدهم،وقد سجلت الشرطة السويدية هذه الوقائع وسيظهر كل شيء في حينه!

وقد تفضل الصديق الدكتور كاظم الحبيب وهو مناضل ومفكر معروف وصديق بارز للشعب الكردي وتناول هذه القضية بمقال،نشر على كثير من المواقع ، توخى فيه الموضوعية والعدالة، لكن المقال قوبل بالصمت والتجاهل من قبل المعنيين به، مما ينم على أن ما حدث ضدي كان مقصوداً ومبيتاً وليس مجرد انفعال وصخب من متحمسين متهورين!

هؤلاء العنصريون المتعصبون يرعون سباق الكلمة والرصاصة من مقراتهم الفخمة في كردستان ولا يهمهم أن يلوثوا بها الحياة الآمنة في دول أوربية!ويواصلوا نوعاً آخر من الإرهاب القومي يكمل الإرهاب الديني أو يتداخل معه، فالذي هددني في التلفون بلهجة كردية واضحة أتهمني بأنني من أتباع بن لادن،وسيصفي الحساب معي!

طبعاً أن هذا الشاب الغر لا يعرف أن أحد أسباب وجودي وآلاف التقدميين العراقيين في المنافي ومنذ ما يقرب من ثلاثين عاماً هو أيماننا بحقوق الشعب الكردي ونضالنا من أجلها منفصلة أو مرتبطة بحقوق شعبنا العراقي كله،ولكن الذين أرسلوه يعرفون ذلك أو يفترض أنهم يعرفون ،إنما سعارهم القومي أعماهم عن كل شيء!

لقد طابت لهؤلاء العنصريين هذه المباراة المثيرة بين الرصاصة والكلمة!
فهي لا تقتضي منهم سوى الإبقاء على رؤوسهم فارغة، وأجسادهم غارقة في كسلها وخدرها وترهلها، ويمكن لهم مشاهدتها في التلفزيون، أو عبر تلفوناتهم النقالة وهم يشربون الويسكي الاسكتلندي ،ويلتهمون الحلوى البلجيكية،تصلهم خصيصاً عبر سفاراتهم التي احتلوها في أوربا قاطبة تقريباً، بينما يكون على الطرف الآخر،المعرف عندهم بالساذج والأبله والمسكين، أن يقرأ ويفكر ويراجع ويعاني ليصنع الكلمة التي ستنزل حلبة الصراع مع الرصاصة!

إنها مباراة غير متكافئة ولا عادلة ولا إنسانية، لعبة تنتمي للوحوش ولعصور الهمجية، لكن بعض البشر يرون أنها تليق بهم، فهم من عصر وعقل خاصين بهم، وهم أقوياء،ولهم عضلات الوحوش! ثم لماذا يلامون، ما دامت الكلمة تخيفهم،تخترقهم كالرصاصة ،وهم يستقبلونها بأحشائهم وغددهم لا بعقولهم، فهي معطلة!

فهي لعبة ضرورية لوجودهم الذي سيظل قائماً على فراغ ما لم يكن تحته الكثير من صناديق الرصاص! وسيمارسونها حيثما انطلقت كلمة تستنكر طغيانهم : في العراق وفي الخارج وما بينهم عند الصراع على النفوذ والثروة:
ألم يدخل مسعود البرزاني قوات قصي إلى أربيل لقتل أشقائه الكرد والمناضلين العرب معه ،من أجل سلطته؟
ألم يقتل جلال الطالباني،أوائل الثمانينات 67 مناضلاً شيوعياً في بشت آشان،استناداً على هوياتهم كعرب و كانوا ضيوفاً على كردستان يناضلون معه وقدم دماءهم عربونا لصدام للتقرب منه في صفقة موهومة لم تتحقق؟

أن يحل هؤلاء العنصريون مشاكلهم الفكرية والأخلاقية المستعصية بالرصاص، ليس غريباً! فنزال الرصاصة مع الكلمة أضحى لعبة شعبية يمكن أن تعوض عن لعبة كرة القدم التي غابت عن الملاعب العراقية وصارت من المحرمات!

لعبة الرصاصة والكلمة لا تخلو من طرافة،فأحد الطرفين يعرف إنه سيخسر اللعبة،وسيسقط على رمال باردة ،وسينزف دمه ودموع أحبته ،لكنه يمضي إليها بانقياد ثابت وفي باله أن خسارته وقتية، وإن شيئاً ما سينهض من دمه ليعيد مسار الرصاصة فتبتعد عن قلب الحقيقة وتصيب الضمير الميت أصلاً !

لقد تكررت هذه اللعبة كثيراً في التاريخ وأضحت سمجة مملة كما إن النتائج لم تكن لصالح الكلمة دائماً،فالكثير من الحقائق صرعت وماتت وغيبت ،الكثير من الرصاص سار نحو هدفه،وكثير من الضمائر المتعفنة هي التي تحكم وتطغى وتدمي قلوب الطيبين!

لكي تمارس الرصاصة واجبها القومي ،ابتدعوا لها المقدس، فالشعب الكردي الطيب الذي لا يعرف غير دينه وصوامعه الجبلية مقدسات ابتدعوا له مقدسات سياسية مضحكة، تقليداً لمفردات صهيونية مفضوحة: كل شيء يجب أن يصير مقدساً عندهم : كركوك مقدسة ،والمادة 140 مقدسة، وخانقين مقدسة، وتلعفر التي يراد تهجير التركمان منها مقدسة ،وسهل نينوى الذي يجري تهجير المسيحيين منه وتشتيتيهم مقدساً،وبدرة وجصان نزولاً حتى الفاو هي أرض كردستانية مقدسة، وأفكارهم وقرارتهم وإيماءات أيديهم وشراويلهم وشواربهم كل شيء مقدس حتى الملاعق الذهبية على موائدهم مقدسة، ترى أين مقدسات الآخرين؟ أين مقدسات العراق؟ وهل تبقى في العراق مقدس بالنسبة لهم؟

لا يهم!يمكن إسكات الأفواه والأقلام بسرعة ، مع المقدس تنطلق الرصاصة من كاتم الصوت أو من الرشاش بثقة تامة،مستريحة مطمئنة أنها تؤدي مهمة سماوية مباركة و تصير ملتهبة بما يكفي لتخترق جلود الكتاب والمفكرين والمعترضين جميعاً ولتعبر إلى كتبهم وأقلامهم وأطفالهم!ثم تخيف القراء والمتابعين!

الرصاصة في يد العنصري المقدس هي صلاته وعبادته وبها يدخل الجنة، صبغ العنصريون الكرد ما استولوا عليه من أرض وثروة بالأصفر المقدس ليضمنوه ملكاً أبدياً لهم يأخذونه كملوك الفراعنة إلى العالم الآخر، غداً ستصير قبورهم مقدسة أيضا،و أماكن للعبادة يحج إليها الأتباع والمريدون والسياح كالإهرامات!لكنهم نسوا أن للمومياءات الفرعونية خفة دم تجتذب السياح من أقاصي العالم،وهم لا يمتلكونها! فمن يستعمل الرصاص كثيراً لا يمكن إلا أن يكون ثقيل الدم منفراً في حياته وموته!

مسعود البرزاني، عبر عن ذلك بطريقته ، قال : أن الكرد لا أصدقاء لهم! هل يمكن لحاكم حصيف أن يجازف بصداقة شعبه للعالم؟ نرجسيته منعته القول: أن القادة الكرد لا أصدقاء لهم، خسروها طبعاً بعجرفتهم وتعاليهم وجشعهم! فثمة أصدقاء كثيرون للشعب الكردي لن يتخلوا عنه في محنته وفي صراعه مع قادة ألهتهم أطماعهم ومفاسدهم عن رعايته ومكافئته وهو الذي كان يقتسم رغيف خبزه مع الثوار الكرد ،حالماً بالهناء والكرامة والأمن فزجه هؤلاء القادة بمعارك وصراعات وكراهية لمن حولهم لم تجلب له سوى المزيد من الشقاء والقلق !

العنصريون لا يكترثون أن يفقد الشعب الكردي أصدقاءه خاصة من المثقفين والكتاب والفنانين هم يريدون بذلك ،عزله عن العالم لينفردوا به ويملوا عليه سلطتهم الأبوية المطلقة والأبدية، هكذا يريدون ،وربما يفلحون إن لم يقف مع الشعب الكردي، المثقفون الأحرار الشرفاء لا مثقفي مهرجانات المقاولات الثقافية!

القادة العنصريون عادة لا يقرأون التاريخ ويعتبرون نهوض الأشباح من دماء القتلى ضرب من أخيلة الحالمين الواهمين الضعفاء ،ويستغرقون في عبادة صورهم في المرايا، ولا يرون إلا وجوههم وهي تطفح بالعافية ،ولا يسمعون إلا أصوات مستشاريهم تلهج بما يحبون من كلام ومديح وتأليه! ويمضون في فضاءات مفرغة من هواء الطبيعة،ومن متطلبات الحكم الصحيح العادل،إنه الفصام اللذيذ حيث تستحيل السلطة إلى أرصدة طويلة الأرقام في البنوك ،وأطباق وكؤوس شهية ،وأسرة تتعاقب عليها الشهوات، فلا كلاماً ولا نقداً ولا منغصاتٍ!
من هنا يبدأ النخر والسقوط !

بعض هذا هو ما أكدت عليه في مقالاتي لهم ولغيرهم من الحكام المتجبرين أيام صدام وعدي الذين أدرجوا أسماءنا في قوائم المطلوبة رؤوسهم والممنوعة كتبهم من دخول العراق ، إلى جماعات الزرقاوي وميليشيات الموت،فلم ننجوا من تهديدهم،وملاحقتنا ونحن في المنافي مشردون!

لعبة الرصاصة مع الكلمة مسلية لهم ، متعتهم الكبرى ، مصدر فخارهم ومجدهم ، لكني أعترف ،إنني لا أجيدها ،فأنا أطلق كلماتي مفترضاً أنها تلامس عقولاً وضمائر إنسانية لا مخالبُ ولا مسدسات! وأنا أعترف أيضاً إنها ليست مسلية لي بل مؤرقة ومؤلمة واحتضار دائم ، لكنها قضية ضمير ولو آثرنا الراحة لعشنا حياة أخرى!

من حق الكلمة أن تجسد نفسها قبل أن تصرعها الرصاصة!ودون أن تفقد هدوءها وموضوعيتها فالكلمة الطيبة الصحيحة لا تقال خوفاً من الرصاصة أو غضباً منها ، ولا لإغراء ،إنما امتثالاً للحقيقة والعدل ،ليست لدي سوى الكلمات ،ولن استعمل مع قلمي أي قفاز ، وسأبقي عليه كل بصمات أصابعي،لمن يريد أن يقتفي أثري ومع ذلك لهم أن يستعملوا في رصاصتهم مسدساً كاتما أو ناطقاً لكنه مهما أرغى وأزبد ،ونال مني أو من عائلتي ،لن يقول شيئاً غير هزيمتهم وعارهم.

إبراهيم أحمد