لم يکن هناك من مناص أمام النظام الثوري الديني الجديد في إيران والذي جاء على أنقاض واحد من أکثر الانظمة رهبة و قوة في المنطقة لکنه وبسبب الاوضاع المرتبکة التي تسلم على أثرها مقاليد الحکم، لم يجد من مظاهر القوة مايکفي لکي يظهر نفسه بالصورة اللائقة، ومن هنا لم يجد أمامه من مناص سوى البحث في المنطقة عن المرتکزات

نظام ولاية الفقيه: مخاض القدرة أم تباشير الزوال؟ 1-4

الاساسية التي يبني عليها قوته وينطلق منها ليفرض وجوده على الساحتين الاقليمية و الدولية. ولما کان النظام يحمل هوية ذات محتوى إسلامي فإنه لم يجد بدا من أن يمهد لأرضية مناسبة له کي يثبت دوره و أهميته الحيوية على الساحة العربية بوجه خاص، ومن هنا فإنه ومنذ بداية إحساسه بانه قد إمتلك زمام الامور و حسم الصراع مع کافة القوى المناوئة او المختلفة معه فکريا او سياسيا، شرع في إرساء الخطوط الاساسية العامة لسياساته في المنطقة وخصوصا في العالم العربي وکان الخط الاول الاساسي الذي جمع حوله مختلف الخطوط الاخرى يتعلق بالقضية الفلسطينية التي منحها بعدا و اهمية فسرها العديد من المراقبين بالاستراتيجي.


وهنا لابد من الاشارة الى أنه يؤمن قطاع لايستهان به من الشارع العربي بمنجزات و مکاسب محددة قدمها النظام الديني في إيران للقضية الفلسطينية حيث بدئها بغلق السفارة الاسرائيلية في طهران و إفتتاح سفارة فلسطينية مکانها وهو الامر الذي أثلج صدور العرب و المسلمين بشکل عام و أعتبروه بداية مرحلة نوعية من الصراع العربي الاسرائيلي تمهد لتغيير جذري إيجابي في ميزان القوى لصالح العرب.


ولم يدر بخلد أحد ان النظام الجديد في طهران يعد العدة لتوظيف القضية الفلسطينية و قضايا أخرى في مناطق مختلفة من العالم العربي بإتجاه يخدم إستراتيجية إيرانية بعيدة المدى تمهد لتکريس نظام ديني سلطوي شمولي يؤسس لنفوذ إقليمي و دولي ليس بالامکان تجاهله او الاستهانة به. وقد کان من الصعب جدا إقناع أي إنسان يوم إستقبل الخميني ياسر عرفات في إيران من أن أفضل و أقصى ماسيقدمه هذا النظام للقضية الفلسطينية لاتتجاوز حرکـة المقاومة الاسلامية(حماس) وتلك الصواريخ التي تطلقها الحرکة أو الحليف الاستراتيجي الآخر لطهران في المنطقة و نقصد به حزب الله اللبناني بإتجاه اسرائيل وکل صاروخ أطلق على الدولة العبرية لم يجن مکاسب احادية الجانب وانما کان وعلى الدوام لايمر من دون إجابات اسرائيلية عنيفة يتحملها في النهاية المدنيين الابرياء العزل فيما يلوذ مطلقي الصواريخ بأقبيتهم و دهاليزهم المنيعة إتقاءا من شر النيران الاسرائيلية. حرکة حماس التي لم تکن لحد الآن سوى علامة أخرى من علامات انقسام و تشرذم الصف الفلسطيني على نفسه، کان جل و افضل ماقدمته للفلسطينيين إضافة لتجزئة و بعثرة الجهد و الصف الفلسطيني، هو عزل قطاع غزة عن العالم و جعله محمية طالبانية نوعا ما تخضع لقيم و طروحات و تفسيرات الحرکة وکانت المواجهات الدموية التي خاضتها الحرکة ضد الماکنة العسکرية الاسرائيلية تسجل دوما ميلانا واضحا لصالح اسرائيل ولم تکن إنتصارات حماس في أفضل صورها إلا مسائل معنوية محددة بالاضافة الى خطفها للجندي شاليط والذي بات ورقة ضغط بيدها تلعب بها يمينا و شمالا. ان التدخل الايراني في منطقة السلطة الفلسطينية قد جاء بالاساس مخيبا للآمال و الظنون وبدلا من أن يساهم بوحدة الصف الفلسطيني و تقويته(على الاقل)بوجه الجبروت الاسرائيلي، فإنه مزقه بطريقة کانت اسرائيل بذاتها لاتتمکن من تحقيقها او التوصل لها حتى في الاحلام وان الخلاف الفلسطيني الفلسطيني الحاد بفضل الافکار و الطروحات المتطرفة لحماس و المدعومة بشکل او بآخر من جانب طهران هي من العمق بحيث يمکن تصويرها بالاعمق من خلاف بين دولتين متباينتين بل وحتى ان البعض يذهب أبعد من ذلك عندما يصور الخلاف الفلسطيني الفلسطيني بأعمق من الخلاف الفلسطيني الاسرائيلي. لکن سعي طهران لإعداد و تشذيب حرکة حماس لم تکن من أجل إفناء أو إرعاب اسرائيل بقد ماکانت ورقة ضغط و مساومة تلعبها و تلوح بها متى إقتضت مصالحها و خطوط سياساتها المختلفة، والحق ان حرکة حماس کانت و ماتزال سکينة في الخاصرة الاسرائيلية و تسبب لها الکثير من الارباك و المشاکل وهو امر لابد من الاقرار و الاعتراف به لکن السؤال الاهم هو لماذا لم تبق طهران دعمها للفلسطينيين عاما ولم تخص او تفضل طرفا على آخر؟

مالغاية التي تکمن خلف إلقاء کافة الکرات الايرانية في سلة حماس؟ ان الاجابة على هذا التساؤل المهم و الحيوي يرتبط بشکل او بآخر بالمرامي البعيدة المدى لطهران والتي رأت بدهائها السياسي ان الاصطدام و المشاغلة غير المباشرة للاسرائيليين قد تکون مفيدة لها أکثر تحقيق الفلسطينيين لأهدافهم، ومثلما فضلت طهران أرمينيا المسيحية على أذربايجان المسلمة(الشيعية)من أجل مصالح سياسية محددة فإن الامر نفسه يتکرر هنا عندما تفضل حماس(المتفاهمة و المتفقة معها)على الاطراف الفلسطينية الاخرى سيما حرکة فتح التي لعبت دورا غير عاديا في التأثير و التلاعب بشعبيتها الواسعة. ومامن شك ان الاداء السياسي لرجال الدين في إيران برأي العديد من الدوائر و الاوساط السياسية بارع و مشهود له وهو يکاد أن يطبق مبدأ حرب العصابات يضرب هنا و يختفي هناك، يظهر هنا و تأتي الضربة من الجانب الآخر حتى انه ومن فرط إتقانه للعبة فقد تمکن أکثر من مرة من القفز على الکثير من الحواجز و الموانع المختلفة التي وضعتها دول الغرب في طريقه وانها حينما إختارت اللعب في الساحة الخلفية لاسرائيل فإنها قد أعطت تلميحا بالغ الذکاء للغرب من أنه بإمکانها بعثرة اوراق اللعب و تغيير مسار اللعب بصورة قد تقترب من قلب الطاولة على الرؤوس لکنها وفي نفس الوقت وبعد کل فاصل ساخن من حرب أعصاب إستثنائية مع اسرائيل، تعود لتصب دوش ماء بارد جدا على رأس الجميع بما فيهم حرکة حماس نفسها وتجلس من جديد لترقب ما ستکسبه من تلك الجولة لکن المشکلة ان هذه الجولات التي شهدناها خلال الاعوام الماضية بشکل متقطع، باتت تعاني اليوم و بسبب عوامل عدة لعل أهمها تضعضع الدخل القومي الايراني بعد التراجع المريع في اسعار النفط إضافة الى التململ الذي بدأ يطغي على السطح من ممارسات حرکة حماس على مختلف الاصعدة وهو امر دفع حماس(وکذلك حزب الله اللبناني)الى الرکون و الامتثال لمنطق الحوار و التفاوض، وهنا يجب أن ننتبه الى نقطة مهمة جدا وهي أن الاسلوب الذي يتبعه النظام الديني في طهران مع الغرب بعد کل جولة(يحصل خلالها على مکاسب و خطوات متقدمة في برنامجه النووي)، هو التفاوض على الملف النووي و المحفزات المقدمة لطهران، وفي کل جولة لن تجد أية نتيجة مفيدة سوى مايمکن أن نسميه ب(البقية في الاعداد القادمة)،هذالاسلوب هو نفسه الذي تستخدمه حرکة حماس و کذلك حزب الله اللبناني في تعاطيهما مع الاطراف السياسية الاخرى حيث من الصعب أن تجد محصلة نهائية من التفاوض مع هذين الطرفين سوى هدر الوقت و إبقاء الامور معلقة وکلما کان الموقف قويا في طهران فإن إنعکاسات و تداعيات ذلك سيظهر مباشرة في غزة و جنوب لبنان والعکس صحيح أيضا. لکن السؤال الذي يطرح دوما هو؛ هل ان طهران قد تمکنت فعلا من إستغفال تل أبيب و إستغلالها للحصول على مکاسب محددة عن طريق ذلك؟ ان العديد من الاوساط الصحفية الاوربية ترى بأن طهران وان تمکنت من اللعب في الباحة الخلفية لاسرائيل، لکنها قد لاتتمکن من تحقيق الاهداف المرجوة التي تبتغيها من وراء ذلك فيما ترى اوساطا دبلوماسية في باريس من ان تل ابيب قد ضاقت ذرعا بالابتزاز الايراني لها وانها تفکر في طريقة ما تضع من خلالها حدا لهذا الامر في الوقت الذي ماتزال اوساطا سياسية و دبلوماسية في بعض من العواصم الاوربية و کذلك من بين المعارضة الايرانية تصر على ان هناك نوع من التفاهم المباشر أو غير المباشر أو الضمني بين طهران و تل أبيب على عدة مسائل حساسة و حيوية إلا أن کل ذلك لايمنع من أن لعب طهران السياسي وان کان بارعا لکنه مايزال يحتاج الکثير الکثير لکي يمرر خدعه و ألاعيبه على اوساط عديدة تخضع کل تحرك إيراني مهما کان ضئيلا لأکثر من تمحيص و تأويل ومن هنا فإن تحقيق طهران لأهداف نظيفة في مرمى خصومها بحسب ماتتصور قد يکون أمر فيه شئ من التهويل خصوصا إذا تمت الاستهانة بالاطراف المناوئة لطهران و تصويرها وکأنها تغط في نوم عميق. إلا ان الامر الذي يجب ان نقف مليا عنده و نأخذه على محمل الجد، هو أن طهران قد نجحت في کسب قطاعات واسعة من الجماهير في العديد من الدول العربية مثلما کسبت تعاطف الشارع الشعبي العربي من خلال تشبثها(التکتيکي)بالقضية الفلسطينية، وهذا الامر قد دفع مناوئيها و(مفاوضيها)للتعامل معها من منطلق الاعتراف بنفوذها الممتد الى تلك الاوساط وهذا بحد ذاته قد کان منجزا کبيرا لهکذا نظام شمولي إستبدادي، لکن آيات الله المتطلعين بصورة غير عادية صوب الآفاق نجحوا أيضا في کسب ثقة تلك الاوساط من خلال برنامجهم النووي الذي يطرحون ضمنيا و داخل الحلقات الخاصة بهم من أنه برنامج ماض حتى مسك الختام الذي سيکون بالاعلان عن دخول إيران في المحفل النووي.


لکن هناك مسألة أخرى بالغة الاهمية إتخذت طهران أيضا سياسة محددة مخطط لها بدقة و براعة وهي السعي للنيل من المکانة و المنزلة الدينية الخاصة للملکة العربية السعودية أمام الشعوب العربية و السلامية، وهو سعي لم تبذله طهران جزافا وانما کان له أکثر من سبب غير ان السبب الاهم هو نزع الزعامة الدينية منها معيدة للأذهان الصراع الصفوي العثماني للأذهان بعد إجراء تغيرين في الصورة وهي تبديل الدولة الصفوية بالجمهورية الاسلامية الايرانية و جعل المملکة العربية السعودية مکان الدولة العثمانية ومازالت الکثير من الاوساط العربية السياسية و الاعلامية تتصور ان طهران قد تمکنت من سحب (جزء غير قليل)من البساط من تحت أقدام الرياض، بيد ان الامر قد لايکون کذلك وقد يکون له تفسير و طرح آخر مختلف الى حد ما عن هذه الرؤية و هو ماسنأتي عليه لاحقا.