quot; ثمة تعددية في وجودنا وثمة وحدة أيضًا. والوجود، بكل تأكيد، تعددية في وحدة، وكثرة في واحدquot; ندرة اليازجي
يُشكِّل وجود الكائن الإنساني إشارةً إلى كينونة مُستترة في أعماق الكون، ولما كان الكيان الموجود مرتهن بالظهور المادي ناهيك عن الوجود الروحي فقد شكلت قضية المعرفة سؤالا شغل الانسان على مر العصور بل وأمست وجودية الانسان رهنا له.
وقد حاول الانسان على مر العصور فهم المعاني والحقائق التي يمثِّلها وجوده من خلال وسائل شتى، فَطرقَت المسألة المعرفية تاريخ الفلسفة بوجوه عدة ومن خلال درجات ومستويات متفاوتة سواء بشكلها الانطولوجي الغيبي أم ببعدها الاجتماعي والأنتربولوجي.
ومن هنا، فإن الانسان عندما تأمل محيطه الطبيعي أصبح الكون موضوعًا له فتعاطى معه على انه ذاك الجزء الخارجي المُنفصل عنه، الأمر الذي أشعره بالعجز حيال قوة اعتبرها قاهرة له خارجة عن سيطرته، هذا العجز كرسّته الاساطير والميتولوجية القديمة آيضًا.
وجاء الفلاسفة والمفكرون فيما بعد ليكرّسوه من خلال طروحات ارتكزت على مبدأ الفصل التام بين الانسان كذات والكون كموضوع، واضعين بينهما برزخًا وحدًّا لا يبغيان، فاصلين بين جواهر الأشياء الوجودية معتبرين ان كلّ واحدة منها كيان منفصل.
وانبثق عن هذا الطرح أو واكبه فصل quot;الأطرافquot; او الثنائيات سواء منها الثنائيات اللاهوتية quot;الخير والشر، الحق والباطل...quot; او الثنائيات الضدّية quot;الظلام والنورquot;.. أو الثنائيات الاجتماعية والطبقية quot;ظالم ومظلوم، حارم و محروم quot; واعتُبِرَ دومًا أن للعصا طرفان.
وتولد عن التضاد والتصنيف الثنائي سائر اشكال الصراعات والعنف وأدى هذا الفهم المبني على مبدأ الانفصال بين الكائن الانساني والكون بوصفه الخارجي، الى تمرد الذات على تعددية الوجود او ثنائيته على الأقل.
وتحولت الذات البشرية الى مُنفعلة غاضبة تُحاول ان تستجلب الأثواب الدينية والقوالب العقائدية والاتجاهات الفكرية وتُسَخِّر العلم من اجل صبّ جام غضبها على ذاك quot;الآخرquot;الخارج عنها الذي يستحق quot;التأديبquot; او الترويض او quot;الإلغاء quot; كونه يمثل شَرًّا مستطيرًا لا بد من اقتلاعه، سواء كان هذا الآخر ذات مجتمعية او اي ذات تنتمي للطبيعة كالحيوانات والبيئة.
وأمست quot;الأنا quot; في صراعٍ مع quot;الأنواتquot; الأخرى التي لا ترى في غيرها إلا quot;اعداءquot; يحيكون لها المكائد ويدبرون الدسائس، وأصبح الفكر البشري يدور في دوامة الخطأ المطلق والصواب المطلق.
ان فكرًا كَهذا كَثير الثرثرة لأنه على جهوزيّة تامة لصناعة الصور الموائمة لتصوره المنبني على quot;الخير والشرquot; القائم في مخيلته، وهو حاضر لاطلاق الاحكام لما هو صائب و خاطئ، وهو على أتمّ الاستعداد لأن يسوق سائر المبررات فيلبسُها الأثواب السياسية والدينية والمجتمعية والمصلحية... ويُسوّغ العنف ويجعله حتميًّا، وهو عنف لا يخفي إلا انسانًا عاجزًا عن فهم ناموس الطبيعة والحياة.
إذن يحتاج الانسان لفكر مغاير لا ينطلق من مبدأ الفصل، بل ينطلق من فهم الكون فهما داخليا بوصفه جزء منا نحن البشر وفهم وجودنا من خلاله و يطرح في الوقت نفسه تعدديةً تحل محل البعد الواحد للفكر الكلاسيكي.
نحو أفق مغاير!
ان الانطلاق من رؤية تفترض وحدة الجوهر والأصل والنسبية القائمة في جوهر المتكونات الوجودية تفترض مفهوما آخر للتعددية، لان التعدد بهذا المفهوم ليس فصلا في الأصل بل هو تِعداد في اطار لحمة تكاملية فيصبح التعدد لا متناهي كما الارقام كلما اضيف له عدد تحول الى عدد جديد.
انها رؤية جديدة تفتح أفق آخر عبر فهم التعددية quot;الكثرةquot; المعقدة في إطار quot;وحدةquot; وجودية منفتحة من خلال الواقع، فعملية فهم الكون بوصفه عالمًا كوانتيًّا ( مؤلف من ذرات وجزيئيات تحكمها مستويات طاقة تؤدي للترابط بينها ) يمرّ بخبرة عملية معاشة ويجعلنا نُعيد اكتشاف العلم المنبني على النظرية والتجارب في كينونتنا نفسها فنعي وجودنا بمستوى ادارك مغاير يتناغم فيه المعرفة بمستوياتها وبطبقات الواقع المتغيرة.
ويقول ندرة اليازجي عن كثرة الوحدة quot; تبدو هذه الحقيقة وكأنها سلسلة محكمة من المستويات المتكاملة والمتصلة التي تبدأ من الأدنى وتنتهي في الأعلى لتنطوي على ذاتها في دائرة. ومن جانبي، لا أستطيع أن أحدّد الأعلى بأكثر من قولي: إنه لا نهاية كبرى، وكذلك، لا أستطيع أن أعّرف الأدنى بأكثر من قولي: إنه لا نهاية صغرى. وبين هاتين اللاّنهايتين توجد لانهاية ثالثة هي عقدة لقاء هاتين اللاّنهايتين في الإنسان. ففي الإنسان تلتقي هاتان الللانهايتان.quot;
عندها لا يكون الكون موضوعًا والانسان ذاتًا، بل الواقع يشمل الذات والموضوع في آن معًا، وتنصهر الذَّات في كونيتها و وحدة وجودها أصالةً، وعندها تتحقق كونية الانسان الذي يتلمس سِرّ الوجود ويعقل الحقائق المستترة في سرّانيته او سريرته لأنها كلُّ واحدٌ فينطوي في الكون والكون منطو به.
وينبني على هذا الطرح حرية لا حدود لها كونه لا يعرف تضادًّا لانه تحرر من الثنائيات كلها فلا خير ولا شر ولاحق ولا باطل... ولا وجود لمقترب تام ودائم، ولا تناقضات تامة بل هناك دوما مستوى مغاير ثالث يحقق عدم التناقض، وهو أمر يؤسس لنظرة جديدة تجاه اي سلوك مجتمعي وعقدي ويغير مفهوم السلطة التي تنتفي حكما بحكم تعدد المراجع.
اخيرًا، إننا كأفراد نوصف بالكونيين وبناؤو حياة حرة تحررنا من كل معتقد ولم تحتكرنا ايديولوجيا ولم يصادرنا فكر ولا نطرح انفسنا كبدائل مقدسة او نوّجه بتمام مقترب فكري يمتلك الحقيقة، فإن جل ما نطمح به هو فتح ثغرة بسيطة في وعي الانسان التي تتنازعه شهوة السلطة والسيطرة وجشع الاستهلاك وحمى الحروب والصراعات الفردية منها والجماعية ويقع تحت دائرة العنف الدائم بسبب رؤية ادت الى انفصاله عن كونيته الاصيلة واستعبدته في دائرة الانا.
ان فكرا كهذا يصح فيه قول أدونيس: quot; يضيئ طريق التحرر من كلّ ما يُقَيِّدُ الانسان حريّة ووعيًا وإنسانية، من المعرفة- الامتلاك، ومن الانحياز ndash; العقيدة المغلقة، ومن الضيق ndash; التجزؤ، ومن الانسان ndash; الوحش quot;
[email protected]
http://marwa-kreidieh.maktoobblog.com