هناك فرق بين أن يكون الشخص فنانا نتيجة موهبة كامنة منحها له الخالق تتمثل في صوت عذب تتهيأ له الظروف المواتية لينطلق في لحظة مدشنا انضمامه الى عالم الفنانين، وبين آخر خلق كل شيء فيه من جينات الفن بمفهومه الأسمى والأشمل كاسلوب حياة وتعامل وفلسفة ونهج وقناعات، بحيث لا يزيد الفن، بمعناه المباشر أو المجرد كقدرة على الغناء والتطريب، عن جزئية أو جانب من ذلك التكوين العام المتصف كل ما فيه بالفن.. هكذا كان طلال مداح رحمه الله، ولا يحتاج أي شخص لتأسيس معرفة لصيقة به من أجل اكتشاف هذه الحقيقة. ربما تكون لحظات قصيرة من التأمل العميق في بعض تفاصيل حياته الفنية والعامة كافية للوصول الى هذه الحقيقة..
نحن نتحدث اذا عن صنفين، فنان (صوتا وأداء موصلا للفن في معناه المحدود كأغان) وفنان آخر يكون صوته جزءا من منظومة القيم الفنانة التي تنتظم كل تفاصيل حياته وتمثل مدخلا ومفتاحا لها.. الوصف الأول يمكن اطلاقه دون حرج على أكثرية كاثرة ، بينما الوصف الثاني لا يمكن اطلاقه بثقة على أحد خلال نصف قرن مضى غير طلال مداح رحمه الله..
طلال، الفنان الاستثنائي، كان كل ما في حياته انعكاسا لتكوينه الفنان. حتى ما اخترم تلك الحياة من متاعب، ويصر كثيرون أنه كان بامكانه تفاديها، لم تكن سوى النتيجة الطبيعة التي لا يمكن توقع غيرها في حياة فنان بخصوصية تكوين طلال الذي لا يسمح له بغير نمط محدد من التعاطي مع تلك الحياة بكل ملابساتها التي لا بد أن تثقل روحه بأعباء المرارة والحزن العميق، لكنها لا تغير من قناعاته تجاه أسلوب الحياة الذي مضى عليه، ولا يستطيع التنازل عنه مهما بلغت آلامه التي لا تزيده سوى تشبثا بكل مفردات قاموسه الأخلاقي quot; الفنان quot;..
على مدى أكثر من أربعة عقود كان وجدانه البللوري يتكثف في نمير حنجرته الرقراقة بالعذوبة الباذخة عبر أغنيات ستظل وثائق بارزة في تأريخ الفن والموسيقى العربية.. تناثر ابداعه الفذ على كل بقعة في وطنه وفي عالمه العربي، وتجاوزهما الى مسافات أبعد لتجد صوته في سيارة أجرة لعربي مهاجر في بلدان الشرق الأقصى أو في مقهى عربي يحتل ناصية في لندن أو برمنجهام، أو يفاجئك صهيله العذب في أحد أحياء نيويورك التي تتكدس فيها شظايا الغربة والحنين والأحلام العاثرة لعربي لم يجد جملة تعبر عن حاله بصدق مثلما تعبر جملة طلال وهو يصدح آخذا بنياط القلوب quot; مقادير يا قلبي العنا quot;..
وردك يا زارع الورد.. عطني المحبة.. أغراب.. ظالم ولكن.. ليلة تمرين.. يا صاحبي.. في خاطري شي.. الله يرد خطاك، التي كانت آخر عناقه لنا ليلة ودعنا.. وكثير كثير غير ذلك من روائع الفن التي لا تسلم قيادها الا لأسطورة كطلال مداح.. ولو كنا نحسن الوفاء والاحتفاء الصادق بطلال لكانت وظلت أغنية quot; وطني الحبيب quot; تصدح في وسائل اعلامنا منذ اشراقتها الأولى حتى الآن وما بعد الآن. لكنه لا جديد في الأمر حين نعرف ان ذاكرتنا quot; دفانة quot; كعادتها، وخصوصا لكل ما يضيف لتأريخنا ولا نضيف له..
تسع سنوات مرت كأنها حلم منذ تلك الليلة التي شهدت رحيلا اسطوريا ملحميا لا يليق الا به.. وها نحن نتذكره بكلمات ستتلاشى، فما هو الاحتفاء اللائق الذي يمكنه ازالة أقل القليل من جحودنا واهمالنا لصوت الأرض الذي صرخ ذات لحظة وجع: quot; وترحل صرختي تذبل.. في وادي لا صدى يرحل quot; وكأنه كان يتنبأ بما سنقترفه تجاهه..quot;.. هل ستسامحنا؟؟
[email protected]
- آخر تحديث :
التعليقات