تناقلت الصحف والمواقع العراقية في الأيام القليلة الماضية خبرا عن موقع إيلاف يفيد إن جامعة تكريت مسقط رأس ديكتاتور العراق السابق قد رفضت رسالة دكتوراه لطالب تقدم بها لدراسة تجربة الشاعر العربي الكبير حسب الشيخ جعفر مع بيان غاضب لاتحاد الكتاب العراقيين يتهم فيه الناقد محمد صابر عبيد المشرف على الرسالة بالطائفية. جهل المسؤولين في جامعة تكريت بالشاعر العراقي حسب الشيخ جعفر دفعهم لمشاورة الدكتور المشرف في الجامعة عن شخصية الشاعر بوصفه احد نقاد الحداثة في العراق، وكان رده على مسؤولي الجامعة إن الشاعر شيعي وشيوعي وملحد، فقامت الجامعة فورا برفض الأطروحة لان الشاعر يجمع في شخصيته كل ما كان مرفوضا في العهد السابق.

في معرض رده على اتهامات اتحاد الأدباء العراقيين نشر الدكتور محمد صابر عبيد في موقع إيلاف ردا يفيد بأنه لم يكن طائفيا وانه درس شعر الشاعر حسب الشيخ جعفر في أكثر من مناسبة وان لديه علاقات ممتازة مع شعراء quot; الجنوب quot;


quot; إن قسم اللغة العربية اتصل بي هاتفياً وكان في اجتماع حول هذا الموضوع فطلبوا رأيي وأجبت عن أسئلتهم كالآتي، حسب شاعر عراقي مهم من الناحية الفنية، سألوني عن توجهاته الفكرية فقلت لهم شيوعي، وسألوني عن طبيعة موضوعات شعره فقلت إن شعره يمجّد الحياة واللذة الدنيوية quot;.


وفي مكان آخر من الرد يضيف محمد صابر عبيد quot; ولو كنت طائفياً لما اقترحت على أحد طلبتي دراسة القاص والروائي عبد الستار ناصر في أطروحة دكتوراه في جامعة تكريت، وأحتفظ بعلاقات نوعية مع كل أدباء الجنوب quot;.
لم يكن إذن الدكتور محمد صابر عبيد طائفيا ولكنه كان مناطقيا بامتياز، فتسمية quot; أدباء الجنوب quot; تعني بوضوح تام الأدباء الشيعة وهو يظن إن هذا ينقذه من الورطة التي وقع فيها مع جامعة تكريت التي لم تستطع أن تتخلص من الإرث الذي خلفه الديكتاتور بعد مرور سبع سنوات على احتلال وتدمير العراق من قبل الغزاة والميليشيات الطائفية شيعية كانت أو سنية أو قادمة من خلف الحدود.
ما هي الطائفية إن لم تكن في أول الأمر مناطقية وعشائرية ؟ وماذا يعني أن يصنف شاعر كبير مثل حسب الشيخ جعفر في خانة الشيوعي أو الملحد الذي يتلذذ بالحياة مع انه ترك الشيوعية في نهاية الستينات؟ كيف يمكن أن تكون الأمانة العلمية في الجامعة حين تهبط إلى هذا المستوى الرخيص حين تطالب بمعرفة التوجهات الفكرية والاجتماعية للمبدع شرطا للموافقة على دراسته؟
لقد وصل الأمر في عراق اليوم إلى مستويات من الحضيض لم تعرف لها سابقة، حتى أنها وصلت إلى أخر الحصون التي يحتمي خلفها المواطن العراقي الا وهي الثقافة بمفهومها الإنساني الشامل. لا بل إن هذه الحالة لم تمر على أي بلد عربي عاش الظروف التي يمر بها العراق ولا حتى أي بلد في العالم. يبدو إن هذا الأمر ظاهرة عراقية بامتياز، فلم يخبرنا التاريخ بحادثة مشابهة وأرجح الظن إن تمزق الهوية العراقية او تمزق الوعي العراقي يقف خلف هذه الظواهر الشاذة. لم يحدث في تاريخ الثقافة العربية إن قام مثقف بإبعاد ونفي مثقف ينتمي إلى الثقافة نفسها لسبب طائفي، والأسباب كما هو واضح هي الغيرة والكراهية والجاه والسلطة.هذه ليست المرة الأولى ولا الأخيرة التي تحدث مع هذا الشاعر النقي والعذب كمياه الفرات، فقد حدث الشيء نفسه في منتصف الثمانينات كما اخبرني الشاعر نفسه عندما جاء طالب مصري إلى كلية الآداب في العراق لتقديم أطروحة ماجستير عن الإيقاع والقصيدة المدورة عند حسب الشيخ جعفر، لكنه فوجئ بأساتذة جامعة بغداد وهم يخبرونه بأن الشاعر الذي اختيرت الرسالة من اجله شاعر مجنون ولا احد يهتم به، ومن الأفضل للطالب المصري أن يختار احد الشعراء المعروفين، وكانوا يقصدون شعراء السلطة في ذلك الوقت ممن يمجدون الموت في سوح المعارك التي لم تطأها أقدامهم.
النقاش الحاد لم ينته حتى هذه اللحظة وقد يصل في الأوقات القادمة إلى ذرى أخرى غير محسوبة لأنه يعرض الثقافة العراقية إلى التفتت والانهيار أكثر مما هي عليه ألان. ينبغي على المثقفين العراقيين أن يوقنوا بأن الديكتاتور قد انتهى إلى الأبد، وان الثقافة العمياء التي زرعها في عقولهم لم تعد تنتج الثمار السوداء نفسها وإنهم أمام مهمة شديدة وقاسية إن لم يتخطوها فأنهم لا محالة سيحسبون من بقايا المرحلة النتنة.