نعمة خالد من دمشق: في إطار سينما المؤلف جاء فيلم quot;التجلي الأخير لغيلان الدمشقيquot;، الذي كتبه وأخرجه المخرج السوري هيثم حقي. وتأتي تجربة الفيلم هذه، بعد إنشغال طويل للمخرج في إطار الدراما، والتي كان له الفضل الأكبر في أن تحتل الدراما السورية مكانة مرموقة، إلى جانب مخرجين تتلمذوا على يد هيثم حقي.
التجلي الخير هو الفيلم الثالث للمخرج. وهو يتناول تاريخيًا حقبة من الحكم الأموي هي حقبة الخليفة عمر بن عبد العزيز، والخليفة هشام بن عبد الملك. ويكرس عبر هذه الحقبة مسألة المفكر التنويري الذي يسعى إلى إحقاق الحق، والوقوف في وجه الفساد لأقارب الخليفة من خلال شخصية غيلان الدمشقي، الذي تصل فيه أمور مواجهة الفساد إلى حد بيع ممتلكات أقارب الخليفة، وإيداع عائداتها في بيت مال المسلمين، ولا يتوانى غيلان الدمشقي في الفيلم عن التشهير بالفساد والفاسدين، مما يثير غضب وحقد هشام بن عبد الملك، الذي ما إن يصل إلى الحكم حتى يقيم قرب الحرابة على غيلان الدمشقي، من خلال اتهامه بالشرك، وبالتالي قطع يديه ورجليه ولسانه، وعلى الرغم من قطع يدي ورجلي غيلان إلا أن لسانه لم يعقله الخوف بل بقي يشهر بالفساد، والفاسدين، حتى يقطع لسانه، ويعلق على أحد أبواب دمشق ليكون عبرة لمن تسول له نفسه أن يجتهد، ويطلق العنان للأفكار التنويرية الكفيلة بنشر العدالة.

من الفيلم
طبعًا لا يبقى الفيلم في الإطار التاريخي، بل هو يعرض حالة مثقف الراهن المهزوم سياسيًا وعاطفيًا، والعاجز عن الفعل، فنحن أمام شخصية سامي الذي يعد رسالة دكتوراه عن المعتزلة وغيلان الدمشقي، التي يؤديها باقتدار الفنان فارس الحلو، وعبر شخصية سامي نطل على المساحة النفسية والعاطفية لمثقف الراهن، سامي الخائف من كل شيء، المتخم بالهزائم سواء السياسية أو الإنسانية أو الاجتماعية، سامي المشلول في الممارسة، والذي يهرب ليشكل نوعًا من حالة التوازن مع الذات إلى تقمص شخصية غيلان الدمشقي، وممارسة ما يؤمن به عبر هذه الشخصية. سامي الذي يصل حد الخوف عنده إلى حد المعاناة من كوابيس في النوم، تتجلى برؤية صرصار يسير فوق عين مفتوحة، يدهسه حذاء عسكري، وكأن بالمخرج هيثم حقي يريد أن يقول: ليست ممارسة الفكر التنويري هي المحظورة، بل حتى مجرد رؤية الفساد، وتشخيصها في إطار الذات على أنها فساد، هي من المحظورات، ومن السهل جداً أن تفقأ هذه العين، وأن إنسان الراهن هو على الطريقة الكافكاوية ليس أكثر من صرصار، مساحته المتاحة هي الهامش الأشبه بالنفايات.
ولا يقف تقمص سامي للشخصيات التنويرية عند غيلان الدمشقي، بل يتعدى ذلك إلى تقمص ابن رشد حيناً، وعبد الرحمن الكواكبي حيناً، والحلاج حيناً آخر، وفي كل حالات التقمص هذه تنتهي الشخصية إلى التكفير، وكأن قدر حملة الفكر التنويري عبر التاريخ الإسلامي هو التكفير والنفي أو القتل.
وفي إطار فني اعتمده المخرج هيثم حقي، يتبنى التناوب بين شخصية غيلان، وشخصية سامي، يمد إلينا المخرج جسور المقولات التي أرادها للراهن، حيث المثقف المكسور، الذي يعاني من تناقضات تصل إلى حد التناقض والخوف المرضي. ويتجلى الخوف والكبت عند سامي في إطار الكبت الجنسي الذي يعد حاملاً في الفيلم لكل أنواع الكبت: السياسية، والاجتماعية والدينية. وقد استطاع فارس الحلو البطل المطلق في الفيلم عبر أدائه المتميز، وعبر نجاحه في رسم معالم الخوف والهزيمة على وجهه أن يوصل إلينا البناء النفسي لمثقف الراهن، هذا المثقف الذي لا يقف عند حد الحلم في إشاعة العدالة المنشودة، بل يتعدى ذلك إلى حد الحلم بالسلطة، فسامي في محطة ما في الفيلم يتقمص شخصية هشام بن عبد الملك بين سراريه، وفي راهنه يكون عاجزًا أمام امرأة هي مشاع في جسدها. وكأن هيثم حقي يريد أن يقول للمثقف: كفاك ذبذبة بين مثقف معارض، ومثقف طامح بالسلطة.
ولعل العنوان الذي اختاره المخرج هيثم حقي، يتكامل كثيرًا مع مقولات الفيلم، فالتجلي الأخير لغيلان، هو ذاك التجلي الذي لم يكنه غيلان في يوم، هو تجلي المثقف الخائف.
وعبر مشهدية بصرية، اعتنت أكثر ما اعتنت بالزوم على وجه سامي مثقف الراهن، استطاع هيثم حقي أن يوصل لنا تجليات غيلان الراهن، غيلان الذي هو ليس أكثر من حلم، غيلان المهزوم، غيلان الذي هو صرصار، غيلان الطموح الذي لا يمكن أن يطاله مثقفنا العتيد. مثقفنا حبيس الرغبة والخوف والانكسار.
وقد نجح هيثم حقي في تقديم المفارقات بين غيلان التاريخ، وغيلان الراهن سامي. كما نجح في إيصال مقولاته عبر سيناريو مدروس بعناية دون إفاضة، وعبر صور فيها من الجماليات، والحمولات المعرفية والفلسفية والنفسية ما تمكن المتلقي من القدرة على المقارنة، والمقاربة، لما أراده المخرج، ولم توغل الصورة والمقولة في الرمزية المجانية، أو في إطار رمزية من الصعب فهمها، بل هي رمزية مدروسة تمكن أي متلقي بغض النظر عن ثقافته من الوصول إلى ما أراد المخرج أن يقوله. وهذا لعمري هو الغاية الرجوة من السينما التي يجب أن لا تكون نخبوية في طرحها لمقولاتها.
ومن العدالة هنا أن نشير إلى الأداء المتميز للفنانة كندة علوش، التي جسدت فتاة الراهن، هذه الفتاة التي لا تستطيع أن تقرأ حب سامي الصامت لها، بل شكلت في مرحلة جلاد آخر حين تطلب من سامي العاشق أن يوصلها إلى حبيبها الذي يجسد دوره باقتدار قيس الشيخ نجيب، الفتى المعارض، الذي لا تستطيع معارضته أن تتعدى حدود بيته.
ولعل المفارقة الأكبر التي كانت في الفيلم هي طريقة موت سامي العبثية، التي لا تكون إلا نتاج كبته، وحين يمتلك الجرأة على الكلام عن زوج المرأة المشاع، الذي مات في حادث سير والذي يؤدي دوره الفنان رامي حنا، ثم يلجم لسانه الخوف، الذي يدفعه للتراجع، فيقع ويضرب رأسه بإفريز السرير فيموت، وبين موت غيلان الدمشقي الذي بقي حتى اللحظات الأخيرة يشهر بالفساد والمفسدين. فهل من عظة لمثقف الراهن في هذا الموت؟
أخيرًا يمكننا القول أن هيثم حقي كعادته في الدراما أو السينما مخرج متميز، يستطيع عبر الكلمة والصورة أن ينقل لنا المقولات دون مواربة، وبجرأة نحن بأمس الحاجة إليها. فهو تنويري بجدارة، ولعل غيلان الدمشقي بتجليه الأخير ليس أحد تجليات هيثم حقي المخرج التنويري.