فيلم عن المافيا النابوليتانية في مهرجان كان
حملة شعواء ضد اندريوتي في فيلم quot;السماويquot;
قصي صالح الدرويش من كان:
ضمت الدورة الحالية لمهرجان كان السينمائي فيلمين إيطاليين شاركا ضمن المسابقة الرسمية، وهو أمرلم نعتد مشاهدته منذ سنوات. فهناك انطباع عام بأن السينما الإيطالية التي عرفناها وأحببناها لم تعد كما كانت، أي أنها لم تعد تلك السينما الجميلة الملونة المحلقة التي شاهدناها في الستينات والسبعينات والثمانينات. لكن الشيء الجديد في فيلمي هذا المهرجان أنهما يتحدثان عن المافيا الإيطالية ونفوذها المالي الاقتصادي السياسي الواسع. وانتظرنا الفيلم الثاني الذي شاهدناه هذا الصباح والذي يحمل عنوان quot;السماويquot; el divo وأخرجه باولو تورنتينو لنقارنه مع quot;جوموراquot; الذي عرض قبل أيام والذي يتحدث عن المافيا النابوليتانية وأخرجه ماتيو جارون اعتمادا على سيناريو مستلهم عن كتاب quot;جوموراquot; لروبيرتو دافيانو، وهذا الكتاب سجل مبيعات قياسية تجاوزت المليون وثلاثمائة ألف نسخة. وقد عرضت القناة الثانية في التلفزيون الفرنسي اليوم تحقيقا عن هذا الكتاب والكاتب الذي أصبح شهيرا ومضطرا لحماية أمنية، لأنه نشر في هذا الكتاب أسماء زعماء المافيا وهو ما يشكل خطرا على حياته وخوفا من اغتياله.

فيلم quot;جوموراquot; لقي استحسانا عاما، فهو يحتوي على معلومات موثقة عن المافيا وأساليبها وأماكن تواجدها ومسلسلات القتل المتلاحقة لها، حيث العنف هو اللغة البسيطة المستعملة. ويشير الكتاب الإعلامي للفيلم إلى أن عائلات المافيا الإيطالية تشكل القوة الأكثر نفوذا في إيطاليا، إذ تصل حصيلة عملياتها المالية إلى 150 مليار يورو سنويا، بينما لا تمثل حصيلة شركة فيات للسيارات في مختلف أنحاء العالم سوى 58 مليار يورو، كما أن مجرمي المافيا قتلوا أكثر من 10 آلاف شخص خلال الثلاثين عاما الماضية، أي أكثر مما قتلته منظمة quot;ايراquot; الإيرلندية ومنظمة quot;ايتاquot; الاسبانية مجتمعتين. وأموال كوزانوسترا لا تجمع فقط من تجارة المخدرات أو تهريب وبيع الأسلحة أو الأتاوات المفروضة علىالشركات والتجار مقابل الحماية، فهم يستثمرون أموالهم كذلك في قطاعات البناء والسياحة والنسيج والملابس والنقل والنفط والمواد الغذائية والمطاعم والحوانيت والمخازن وصالات السينما والبنوك وحتى جمع القمامة، وعبر هذه القطاعات الاقتصادية يتم كذلك تبييض الأموال. ولا تقتصر أماكن نشاط المافيا على صقلية أو جنوب إيطاليا، فهي منتشرة في مختلف أنحاء العالم من تايوان وحتى نيويورك ويعمل فيها ألاف الأشخاص من مختلف المهن والمستويات الطبقية والاجتماعية. وحسب الإدارة الوطنية لمحاربة المافيا، فإن المنظمات الإجرامية يمكن أن تعد جيشا من 25 ألف مجموعة تضم حوالى 200 ألف شخص تتعامل معهم وتعتمد عليهم. ويمثل حي سكامبيا الضاحية الشمالية في مدينة نابولي مركز نشاط المخدرات الأسود حيث يجمع هناك نحو 500 ألف يورو يوميا.

فيلم quot;جوموراquot; لا يقوم على بنية درامية معتادة كتلك التي شاهدناها في أفلام مثل quot;العرابquot; أو أفلام المخرج مارتن سكورسيزي، صحيح أن بعض الشبان والمراهقين يحلمون في أن يصبحوا أبطال quot;سكير فيسquot;، مثل توتو الذي يبلغ عمره 13 عاما والذي يحلم في أن يكبر بسرعة وقدر ما يستطيع ليثبت قدرته مثل قادة المافيا. البنية الدرامية الأساسية في الفيلم تقوم على القتل، بحيث تغيب عن الشخصيات الروائية بملامحها الحياتية والعاطفية والنفسية. وعليه لا يشبه الفيلم الذي شاهدناه في مهرجان كان المواصفات التي نعرفها في أفلام المافيا الأميركية. فليس هناك العراب أو ابنه الذي ورثه أو ابنه الآخر الذي خان العائلة أو الصديق المحامي الوفي أو الضعيف الذي باع السر، لذلك يبدو فيلم quot;جوموراquot; فقيرا من هذه الناحية، وحتى لا توجد فيه امرأة جميلة أو قصة حب أو خيانة عاطفية. لذلك قد يكون الفيلم مهما من جهة وفقيرا من جهة أخرى، وهو الأمر الذي يحد من إمكانيته على التفوق وبالتالي التنافس للحصول على السعفة الذهبية أو أي من الجوائز الأخرى، إلا إذا بدا شون بين ضعيفا إزاء درجة العنف فيه.

الفيلم الثاني يحمل عنوان quot;السماويquot; والذي يعني لغز الديفا الأسطورية اللقب الذي يطلق على مغنيات الأوبرا الشهيرات مثل ماريا كالاس، وقد فضلنا ترجمته بالسماوي. ويتحدث الفيلم عن رئيس الحكومة الإيطالي العتيد جوليو اندريوتي الذي اتهم في قضايا كثيرة من بينها ارتباطه ببعض قادة المافيا، وقد صدر حكم إدانة بحقه في المحكمة الابتدائية، إلا أن الاستئناف أصدر حكما ببراءته. ومن التهم التي وجهت له كانت مسؤوليته عن اغتيال صحافي شهير لكن القضاء حكم ببراءته أيضا. ويشن مخرج الفيلم حملة انتقاد عنيفة ضد اندريوتي باعتباره مسؤولا عن الحكم والفساد في ايطاليا، معتمدا أسلوبا ساخرا لاذعا في تقديم طريقة اندريوتي في المشي والحديث وفي هدوئه. وقد التقى المخرج مرتين مع اندريوتي وكان لقاؤهما وديا. ومع أن اندريوتي معروف بهدوئه الشديد الذي يتناقض مع الصورة التقليدية للإيطاليين، فقد غضب هذه المرة بعد مشاهدة هذا الفيلم قبل أسبوع حين شاهده في عرض خاص، لأن الفيلم اتهمه بالكذب ولأنه شن حملة شعواء ضده.

والفيلم بدا مغاليا جدا في انتقاد اندريوتي، بحيث ظهر المخرج كرجل سياسي يحاول تصفية حساباته معه، في وقت لم يثبت القضاء أي تهمة ضده، هذا العداء الظاهر أفقد الفيلم مستواه الفني، وخصوصا قد طغى عليه الطابع الكاريكاتيري.
عمر اندريوتي اليوم 89 سنة وكان يقر بأنه قصير القامة لكنه يضيف أنه حين كان ينظر لم يكن يجد حوله عمالقة. وقد انتخب اندريوتي مباشرة بعد الحرب العالمية الثانية في البرلمان في يونيو 1946 ولمدة 15 دورة انتخابية وانتخب رئيسا للحكومة سبع مرات ثم عين وزيرا 23 مرة، من بينها 5 مرات في وزارة الخارجية، كما انتخب سيناتورا مدى الحياة.

وكصحافي عربي كنت قد التقيت اندريوتي ثلاث مرات أجريت خلالها معه حوارين صحافيين والتقينا في المرة الثالثة من دون حوار، كنا وحيدين في مكتبه في المنزل. وأستطيع القول إنه كان ذكيا وصريحا رغم تحفظه المعروف. ولم ألحظ في ذكائه هذا الدهاء الماكيافيللي الشرير الذي رأيناه في الفيلم. وكان بالنسبة لنا مدافعا عن القضايا العربية مع أن الذي أخذني إلى منزله كان اليهودي الليبي رافائيل فلاح.

لقد استطاع اندريوتي أن يتمثل مواصفات الحياة الايطالية بعد الحرب العالمية الثانية بكل الفوضى القائمة، رغم الصراع العقائدي الشديد بين الشيوعيين الايطاليين والديمقراطية المسيحية، وكان بأسلوبه يقبل الحوار والجدل والتعايش بين هذين القطبين المتناقضين. ولا أعرف إن كانت له علاقة خاصة مع قادة المافيا، لكن المافيا كانت موجودة في مختلف المناطق والفئات وخصوصا في الجنوب الإيطالي وتحديدا في نابولي وصقلية. وقد التقى القادة السياسيون رغم خلافاتهم العقائدية على معرفة شخصيات مختلفة من دون أن تكون معروفة بالضرورة بعلاقتها مع الكوزانوسترا. ومع أن بعض قادة المافيا ألمح أثناء المحاكمة إلى لقائه اندريوتي، فإن القضاء لم يثبت صحة ذلك، رغم أن المحاكمة استمرت ثلاث سنوات وترافقت بضجة إعلامية هائلة، كما لم يثبت أن اندريوتي استولى على أموال هائلة، أثبت القضاء تورط رئيس الحكومة الاشتراكي برونو كراكسي بعمليات اختلاس وتمت إدانته، علما بأنه كان رئيس حكومة سيطر لفترة طويلة.
أيا كان الأمر، جاء فيلم الديفو متوسطا من الناحية الفنية، بل ضعيف، لا يغير من ذلك أن بعض ممثليه مثل توني سارفيليو الذي أدى دور اندريوتي يعد من ابرز النجوم الشعبيين في إيطاليا.