نصر جميل شعث: هذه المقالة هي نظرة قربية من متابعتي وقراءتي لجديد الأعمال الأدبية، لاسيما الشعرية منها؛ والتي تصدر تباعًا من هنا أو من هناك. إذن أقف على الحوارات التي يتمّ إجراؤها مع شعراء وتظهر على صفحات الصحف والمواقع الورقية والإلكترونية. تتنوع طبيعة أسئلة المحاور كلّ حسب ثقافته وذكائه وقدرته على وضع اليد في مكامن جوهر أو ضعف ضيفه. هناك أسئلة ذكية ومهنية ومصقولة بالقراءة المعمّقة في آثار هذا الشاعر أو ذاك. هناك أسئلة تنطلق من قنوات السذاجة، أو يتم إلقاؤها في وادٍ غير ذي ماء وزرع. وأسئلة وإجابات خفيفة ومريضة بالادعاء وفاضحة بامتياز.
لكن، للحق، تأتي إجابات كبيرة لكون الأفكار التي يدلي بها بعض الشعراء تصنّف في صميم النقد. غير أنّ هذا يجعلنا نطرح تساؤلاً مهمّا في ظلّ غياب الأرصاد النقدية لجديد الشعر الذي يكتبه الشعراء، ولاسيما الشباب: هل يجوز للشاعر أن يتحدّث في أدقّ خصوصيات تجربته الشعرية؟ المفترض أن يتحدّث في أمور وأفكار وصفية عريضة، تنادي القرّاء، فيما يحاول الشاعر رسم ملامح التجربة. وعلى القارىء الناقد أن يخلق مفاتيحه بحدسه أو بحسه النقدي ونواياه الإبداعية لفتح الأبواب الداخلية للخزنة الشعرية، المليئة باللاوعي الابداعي، التي لا يكتشفها الشاعر نفسه، وإن كان يعلم بالمعاني والأفكار الموضوعية والإنسانية المشتركة في نصوصه. ولا أدري ما علاقة هذا الكلام عن الخزنة الشعرية بتذكّري الآنَ كلامًا (ينسب) إلى رولان بارت يصف فيه الباحث عن جوهر ومعنى النصّ الأدبي؛ كذلك الذي يقشّر بصلة متابعًا عملية تعريتها من طبقاتها وصولا إلى لا شيء. بعد المعاناة التي تصيب عينيه. ولأن الشيء بالشيء يذكر هناك قصة عن الإمام الشافي تقول: (بينا كان في حجرته مشغول الذهن في حلّ مسائل فقهية، إذ بزوجته المنشغلة بإعداد الطعام، تطلب منه أن يحضر لها بصلة. وعدها الشافعي بأن يخرج حالا، ولكنه غرق في حلّ مسائله ونسى مسألة البصلة. أعادت الزوجة عليه الطلب، فأجابها بأنه ذاهب الآن، غير أنه نسى مرة أخرى مسألة البصلة.. وهكذا، إلى غادر الحجرة وأحضر لها البصلة، وحين عاد ليكمل حلّ المسائل الفقهية؛ لم يستطع. عند ذلك قال الشافعي: من أجل بصلة ضيّعت ألفَ مسألة.) ولكي يكون الأمر مناسبًا للمقام الأدبي، نستبدل البصلة بالبوصلة. وعليه يمكن القول بأنّ طرق من الإجابات على أسئلة الحوارات تضيع وتتوه في نفسها، ويضيّع بها المجيب ملامحَ الطريق بدلاً من أن يرسمها لقارىء متوسط، على الأقل، إن لم يكن نخبوي. أهمّ محطات التيه هي موضوعة الحداثة الشعرية وأبرز علائمها: قصيدة النثر. مثلا يفاجأك هذا السؤال، في حوار مع أحد الأسماء، منشور في أحد مواقع الإنترنت، وفيه يقول السائل للإسم: quot; أرى أنك تحتشد في قصائدك أشباحاً، لابد أنك تجنّدها لمباغتة العتمة في كهوف الحداثة العربية المتحولة، بالاقتراب من كتاب الثابت والمتحول للشاعر الكبير أدونيس؟quot; .. ثم تأتي بشائر إجابة الإسم على هذا النحو: quot; إسمح لي بأن أعتبر سؤالك غوصًا عميقا يدلّ على إحاطتك بأبعاد الأزمة .. في الحقيقة، يتماسّ السؤال مع quot;تفجير اللغةquot; وانفعالية المسار الاعتباطي في خروج المعنى على عصمة الأشياء في حافة الألغاز ورحابة التفجيرquot;.!! ولو قيّض لهذا الإسم المجيب عند انتهائه من تسطير الإجابة؛ لو قيّض له ناقدٌ من نقاد هذه الأيام لقال له، بعد وجبه تصفيق هائلة في ضوء النيون: انظر إنك حتى وأنت تتحدّث في فنيّات قصيدة النثر تقترب من سأم بودلير فتكتب قصيدة نثر على شكل إجابة من حيث لا تدري .. هذا هو ما كان تحدّث عنه السورياليون .. هذا بالضبط المقصود من الكتابة الآلية .. إنّ سؤال صديقك المبدع المحاور الشيق النبيل، على خفته الصحفية، قد فعل فيك ما تفعله الخمر في شاربها من تغييب للوعي بالأوزان!!. إذن، وهكذا هي الأزمة ماهرة في خلط وضغط المفاهيم، وتوظيفها على تلك الشاكلة من السندات الملاكة والجاهزة. أزمة ماهرة تفرز، حتمًا، أساليب ولفظيّات غاية في الاستعراض اللغوي والتحذلق والإدعاء، ولعلّ مهارة أزمة كهذه تكمن في كون الماهرة تضاعف من قيمة السخرية كشفاءٍ منها، بقدر ما تضاعف الشفقة كشعور وكقيمة إنسانية غير متبوعة بنزعة نيتشوية لسحق الضعفاء ورفع مقولة: البقاء للأقوى! إنما الدعاء لله بنصرة الضعيف بالموهبة. ولا أخفي عليكم: إنني أطلقت ضحكة جنونية، وأنا أقرأ ما أوردته كشاهد من حوار، حتى كدت أيقظ أهل البيت!! وفجأة قفزت من ذاكرتي حكاية quot;السمكة والموهبةquot; التي قرأتها في مقالة منشورة في 29/5/1974، ضمن الجزء الأول من الأعمال النثرية لأحمد سليمان أحمد الذي الذي هو أخ الشاعر الشهير بدوي الجبل. وسأنقل، بتصرفٍ، هذه الحكاية الجبلية عن الموهبة وتقول: (أنّ شاعرًا سيءَ الطالع اصطاد سمكةً ذهبية، فتوسلتْ إليه أن يردّها إلى البحر، ولكنّ الشاعرَ طلبَ منها، مقابل ذلك، شيئـًا تعطيه إياه؛ فوعدته بأن كلّ رغباته ستتحقق. ووسط الفرحة العارمة لهذه البشرى أطلق الشاعر سراحَ السمكة الذهبية، وذهبت في اليمّ سَرَبا. وما لبثت النجاحات أن أخذت تتوالى على الشاعر، فنشروا له دواوينه، وحصل على منزل في المدينة، وعلى بيت صيفي في الريف، وغدا شهيرًا، كل عدة أيام يذكّرنا بذاته الشاعرة خلال حوار. ويردّد اسمه الناسُ جميعًا. وبينما هو مستمرّ في هذه الطريق، وقد أصبح عضوًا مؤثرًا في quot;اتحاد الكتابquot;، ومن فرسان quot;بيت الشعرquot;، وحامل جوائز عديدة وسفريات متتالية، وكتب عنه أشدّ النقاد نفاقـًا. وحين فاجأته زوجته بهذه العبارة المشؤومة: لماذا لم تطلب إلى السمكة الذهبية أن تهبك بعضَ الموهبة؟ وبدا كأنّ كلّ شيء استنار، فجأةً، أمام الشاعر. وها هو قد أدرك أخيرًا ما الذي ينقصه إلى الآن، فاندفع إلى البحر ونادى السمكة الذهبية: أيتها السمكة الصغيرة، أيتها الجميلة. هبيني ولو طرفـًا قليلاً من الموهبة! وأجابت السمكة الذهبية: لقد أعطيتك كلّ شيء، وكل ما رغبتَ بهِ أنت نفسك، وكلّ ما ترغبه في المستقبل أستطيع أن أهبكَ إياه، ما عدا الموهبة. فهذا ما لا أقدر عليه).

وهناك مفارقة هامة تضبط وتكشف لنا فيما نحن نقرأ في حوارات كثيرة لشعراء كثيرين؛ مفادها أنّ هذا الشاعر الذي وفّقَ، إلى حدّ ما، في إعطاء إجابات؛ قد لا يكون، بالضرورة، شاعرًا، قويّا. هذا صحيح، فهناك ممن يحملون لقب شاعر يكونون موفوري الثقافة الأدبية، غير أنك إذا قرأت لهم شعرًا يصدمك ضعفُ مستواهم، وليس أمامك، عندئد، إلا تجسيد المفارقة بذكر أسماء الشعراء الضعفاء، على الأقل في الجلسة التي تجمعك، دون سابق وعد، بأصدقاء الحرف؛ إذا لم يكن نشْرُ نتائج قراءة هذه المفارقة متاحًا لك في إحدى الصحف المحلية أو العربية. على ألا يكون السبب وراء امتناعك عن ذلك بعْضُ الحسابات الضيقة المرجوّة من شاعر متنفّذ. ولعلّ هذا المقام يسمح لي بالإشارة إلى شاعر مغربي كان قد أخبرني، بما يُجمع عليه شعراء كثر من جليه، أنّ: quot;محمد بنيس إسم علم في الثقافة المغربية، ومكانه الأصلي في التنظير للشعر، لكن مكانته كشاعر تأتي لاحقا أو قد لا تأتي بالنسبة لناquot;. ولاشك أن هذا رأيًا راديكاليّا، ولكن هذا ما يقال، ويجد من يصادق عليه هناك شفويا على الأقلّ! من دون أن نقصد بهذه الاشارة نتبنى وجه النظر هذه.

في المقابل من ذلك، كنت قرأت، قبل أيام، في إجابات لبعض شعراء رائعين حقّا وأكثرهم من الشباب دون الخامسة الثلاثين. وقد بدت الثقة لديهم عالية والإجابات مكثفة ومحددة. إنّ ثقة كهذه في الشأن الشعري هي ثمرة شيئين: تحقيق الذات وتقديرها. فإذا كانت الذاتُ مبدعةً حقا؛ تأتي الثقة من طريق: وعي الموهبة والحفاظ عليها وتربيتها كما لو كانتْ طفلا يلازمك إحساس بأنه لا يكبر، وينبغي رفع القلق لأعلى مستوياته، بإبقاء شعور الخوف من أن يتوه الطفل مشروعًا. وهذه الـ quot;لا يكبرquot;، بحد ذاتها، مكان لإقامة التواضع في الثقة. ولقد أدركت من طريقة إجابة هذا البعض الواثق أنهم، فعلا، يكتبون عن اللحظة الفكرية المختلفة، لتجاربهم الجديدة، بعيدًا عن السندات الجاهزة سلفًا، المليئة بتسميات quot;شعراء الحداثةquot; العربية. حتى أنني رأيهم يبذلون قدرة جديدة رائعة للتوسّع في الإجابة عن أسئلة بخصوص أجواء وأفكار معينة لديهم. وبدوا يكتبون لحظات شعرية خاصة وجديدة، داعمة ومعززة لأفكار أعمالهم الصادرة، في التو. وقد تكون مستقلة وملائمة لإسباغها على عمل جديد، لاحقـًا. وما رأيته، في بعض الإجابات، كان يقترب من الذائقة كلحظة شعرية تخرج من لحظة الإجابة ذاتها؛ هذا على الرغم من وعيي الآن ووعي الشاعر المسبق بأنه يقدّم إجابة على سؤال صحفيّ. إذن، هل يجوز لنا أن نستلّ قصيدة من حوارات مع شعراء في تجاربهم، كما فعل الشاعر عبد القادر الجنابي مع مقالات للشاعر العراقي الراحل حسين مردان، حيث فعل ذلك في مقالته المنشورة، في ثقافات إيلاف، بعنوان: quot;كآبة بغداد: ديوان حسين مردان المفقود quot;. نعم، ربما استطعنا الابتهاج بقراءة قصيدة مستلة لشاعر تحت تأثيرات الأسئلة الموجه إليه في خصوص التجربة. لكنه لن يكون بمقدور هذا الشاعر أو ذلك الكتابة عن اللحظة الشعرية الجمالية الخاصة بالأعمال الصادرة للتو، إنهم يتحدثون عن اللحظة الفكرية وحسب. وعلى فرض استدعاء البرهة الشعرية النازلة هناك والإمساك بها هنا؛ فإنّ هذا، وعلى الرغم من استحاله الفرض، قد يخوّل الشاعر القيام بدوره كناقد جماليّ لذاته. وعند ذلك يتعطّل دور الناقد المنتظر، وإن حضر يقتصر دوره الخارجي على قيامه بالتلصص على شاعر يتحدّث كثيرًا عن نفسه، وعن أدقّ خصوصيات جماليات الشعر الأفكار في العالم والأشياء!