بقلم فرانسيس ويين
ترجمة غريب اسكندر
في شباط عام 1867، قبل تسليم المجلد الاول من رأس المال لطباعته، نصح كارل ماركس KARL MARX فريدريك انغلز FRIEDRICH ENGELS بقراءة التحفة الادبية غير المعروفة لهونوري بلزاك. القصة نفسها كانت تحفة صغيرة، وقد قال ماركس انها: ((مليئة بالسخرية الممتعة)). لانعرف اذا ما انغلز استمع الى النصيحة. اذا اتبعها سيكون بالتأكيد لاحظ السخرية لكن يمكن أن يكون قد تفاجأ كيف يمكن لصديقه القديم ان يجد اية متعة فيها. التحفة غير المعروفة هي حكاية فرينهوفر FRENHOFER، الرسام العظيم الذي قضى عشر سنوات يعمل ويعيد العمل لبورتريه سيغير الفن جذريا بتقديم ((اكبر قدر ممكن من تمثيل الواقع)). عندما سمح اخيرا لزميليه الفنانين بوسين وبوربوس بفحص اللوحة المنتهية، اصيبا بالرعب لرؤية عاصفة من الاشكال والالوان العشوائية مكدسة الواحدة على الاخرى باضطراب. (اوه!) يصرخ فرينهوفر، سوء تأويل لدهشة عيونهم. ((لم تتوقعا مثل هذا الكمال!)) لكنه سمع بعد ذلك مصادفة بوسين يخبر بوربوس ان فرينهوفر يجب ان يكتشف الحقيقية بأن البورتريه قد رسم مرات عديدة حتى لم يبق منه شيء.
((لا شيء في لوحتي!)) تعجب فرينهوفر، رامقا الرسامين الاثنين ولوحته.
((ماذا فعلت؟)) قال بوربوس بصوت خفيض لبوسين.
مسك الرجل العجوز ذراع الرجل الشاب بخشونة، وقال له: ((لا ترى شيئا هناك، مهرج، وغد، كافر، كلب! من حملك الى هنا، اذن يا بوربوسي الطيب)) استمر، استدار الى الرسام الاكبر سنا، ((هل يمكن ان تكون انت ايضا، تسخر مني؟ اجبني! انا صديقك؛ اخبرني، هل افسدت لوحتي؟)).
تردد بوربوس، حاول ان لا يتكلم؛ لكن القلق الذي رسم على وجه الرجل العجوز الشاحب كان مؤثرا للغاية الى حد انه اشار الى اللوحة قائلا: انظر!.
فرينهوفر حدق في لوحته للحظة مصعوقا. ((لا شيء! لا شيء! وقد عملت عشر سنين!)). سقط على الكرسي وبكى.
بعد ان طرد الرجلين من مرسمه، حرق فرينهوفر كل اعماله، وقتل نفسه.
طبقا لصهر ماركس بول لافارغو، حكاية بلزاك ((كان وقعها عظيما عليه لأنها كانت في جزء منها وصفا لمشاعره الخاصة)). عمل ماركس بكدح على تحفته الادبية غير المنظورة، ومن أول هذا الحمل الطويل الى أخرهًًًًَََ كانت اجابته المعتادة لأولئك الذين يسألون عن لمحة للعمل الجاري الان مطابقة لاجابة فرينهوفر: ((لا، لا! ينبغي أن اضع بعض اللمسات الاخيرة له. أمس، قبيل الليل، اعتقدت انه اكتمل... هذا الصباح، قبل ضوء النهار ادركت غلطتي)).
منذ عام 1846، عندما كان الكتاب، اساسا، متأخرا، كتب ماركس لناشره الالماني: ((سوف لن اطبع الكتاب من دون مراجعته مرة اخرى، فيما يخص المادة والاسلوب معا. لا داعي للقول ان كاتبا يعمل باستمرار لا يستطيع، بعد ستة اشهر، ان يطبع حرفيا ما كتبه قبل ستة اشهر)). بعد اثنتي عشرة سنة، وليس ثمة اكتمال قريب، علل ذلك بأن ((الامر يسير بطيئا جدا لانه حالما يشرع المرء اخيرا بالخلاص من موضوع كرس له سنوات من الدراسة له يبدأ بكشف جوانب جديدة تتطلب تبصرا اكثر)). مهووسا بالكمال، كان دائما يبحث عن الوان جديدة للوحته- يدرس الرياضيات، يتعلم عن حركة القبب السماوية، يعلم نفسه اللغة الروسية حتى يستطيع ان يقرأ كتبا عن نظام الملكية.
او، لاقتباس فرينهوفر مرة اخرى: ((وا اسفاه! ظننت للحظة ان عملي قد انتهى؛ لكنني بالتأكيد كنت خاطئا فيبعض التفاصيل، ولن يرتاح بالي حتى تنقشع شكوكي. لقد قررت السفر وزيارة تركيا واليونان وآسيا باحثا عن موديلات، كي اقارن لوحتي مع الطبيعة باشكالها المختلفة)).
لماذا تذكر ماركس حكاية بلزاك في اللحظة نفسها التي كان يستعد فيها لاماطة اللثام عن اعظم اعماله لانظار العامة؟ هل خاف من انه قد يبذل جهدا مضنيا دونما طائل وراءه، وان ((تمثيله الكامل للواقع)) سيعصى فهمه؟ كان بالتأكيد عنده بعض التخوفات- شخصية ماركس كانت هجينا غريبا من الثقة الشديدة بالنفس وبؤس الشك بها- وحاول ان يحبط النقد بتحذيره في المقدمة ((افترض، بالطبع، قارئا يريد ان يتعلم شيئا جديدا ولهذا يفكر بنفسه)). لكن ما ينبغي ان يستوقفنا هنا بقوة حول مشاركته الشعورية لمبدع تحفة فنية مجهولة هو ان فرينهوفر فنان وليس اقتصاديا سياسيا، وليس كذلك فيلسوفا اومؤرخا او مناظرا جدليا.
اكثر الامور سخرية وبهجة في هذه التحفة المجهولة، كما لاحظ ذلك الكاتب الاميركي مارشال بيرمان، هو ان وصف بلزاك للوحة وصف تام للرسم التجريدي في القرن العشرينًًًًًًًًًًًًًًٍٍٍٍٍٍٍٍٍَََََََََََََََََََََِِِِِِِِِِِِِِِ وكون تلك المعرفة مستحيلة يزيد التطابق. ((النقطة الهامة في الموضوع انه حيث يرى عصر ما فقط الفوضى والتفكك، يمكن ان يكتشف العصر الذي يليه او الاكثر حداثة المعنى والجمال))، كما كتب بيرمان. ((وهكذا فان النهاية المفتوحة جدا لعمل ماركس الاخير يمكن ان تتصل بعصرنا كما لا تستطيع اعمال اكثر كمالا من اعمال القرن التاسع عشر ذلك: رأس المال يتخطى الاعمال المتقنة من قرن ماركس الى حداثتنا المتقطعة)).
مثل فرينهوفر، كان ماركس طليعيا حداثيا قبل ان يبشر بها. وصفه المشهور للخلع في البيان الشيوعي- ((كل ما هو صلب يذوب في الهواء))- متنبئا بالرجال الجوف والمدينة غير الحقيقية التي صورها تي اس اليوت، او(الاشياء تتفتت؛ المركز لا يقوى على التماسك) لييتس. وعندما ابتدأ بكتابة رأس المال تخطى النثر التقليدي الى اصوات وملصقات من الميثولوجيا والادب، من تقارير مفتش معمل وقصص الجن، مثل اسلوب اناشيد عزرا باوند او اليوت في الارض اليباب. رأس المال خلافي كشوينبيرغ ومرعب مثل كافكا.
رأى ماركس نفسه فنانا مبدعا وشاعرا للديالكتيك. ((ساقول لك الآن الحقيقة الناصعة بشأن عملي)) كتب الى انغلز في تموز/ يوليو 1865. ((مهما تكن ربما في كتاباتي عيوب، فائدتها في كونها كلا قطعة فنية)). كان للشعراء والروائيين، اكثر من للفلاسفة وكتاب المقالات السياسية لأنه بحث ببصيرة في دوافع واهتمامات الناس المادية: برسالة في كانون الاول/ ديسمبر عام 1868 استنسخ عبارة من عمل اخر لبلزاك، قسيس القرية، وسأل اذا ما كان انغلز استطاع ان يعزز الصورة من معرفته للاقتصاد التطبيقي. لو كان يرغب بكتابة اطروحة اقتصادية تقليدية لفعل، لكن طموحه كان اكثر جرأة. يصف بيرمان مؤلف رأس المال ((احد العمالقة المعذبين في القرن التاسع عشر- جنبا الى جنب بيتهوفن وغويا وتولستوي ودوستوفسكي وابسن ونيتشه وفان غوغ- الذين يدفعوننا الى الجنون كما دفعوا انفسهم، لكن عذابهم ولد كثيرا من رأس المال الروحي الذي ما زلنا نعيشه اليوم)).
لكن كم من الناس يفكربإدراج ماركس في قائمة الكتاب والفنانين العظماء؟ حتى في عصر مابعد الحداثة هذا يفسر السرد المكسر في رأس المال عند كثير من القراء على انه ابهام وفاقد للشكل. أي امرئ يرغب في ان يتعاطى مع بيتهوفن او غويا او تولستوي ينبغي ان يكون قادرا على ((تعلم شيء جديد من رأس المال)) - ليس فقط لأن موضوعه مازال يتحكم بحياتنا وكما سأل بيرمان: كيف يمكن ان يموت كتاب رأس المال بينما يبقى رأس المال حيا؟ من المناسب القول ان ماركس لم ينه رائعته. كان المجلد الاول هو المجلد الوحيد الذي ظهر في حياته، والمجلدات التالية جمعها اخرون بعد موته استنادا الى الملاحظات والمسودات التي وجدت في مكتبه. عمل ماركس نهايته مفتوحة ومرن كالنظام الرأسمالي نفسه. وعلى الرغم من ان رأس المال صنف بوصفه كتابا في علم الاقتصاد، لم يدرس ماركس الاقتصاد السياسي الا بعد سنوات من العمل المضني في الفلسفة والادب. انها الاسس الثقافية التي دعمت المشروع، وتجربته الشخصية في الاغتراب هي التي اعطت مثل هذه الحدة في تحليل نظام اقتصادي يبعد الناس بعضهم عن البعض وعن العالم الذي يسكنونه- عالم تستعبد الناس فيه القوة الغامضة للرأسمالية والسلع.
كان ماركس غريبا منذ لحظة ولادته في الخامس من ايار/ مايو عام 1818، طفلا يهوديا في مدينة غالبيتها من الكاثوليك، هي تراير، داخل دولة بروسية ديانتها الرسمية بروتستانتية تبشيرية. وبرغم ان فرنسا قد ضمت ارض الراين خلال حروب نابليون، اعيد دمجها في الامبراطورية البروسية قبل ثلاث سنوات من ولادته واصبح يهود تراير خاضعين الى مرسوم يمنعهم من ممارسة مهن: كان ينبغي على ابي كارل، هينريك ماركس ان يعتنق اللوثرية من اجل ان يعمل وكيلا. وشجع الاب ماركس على ان يقرأ بنهم. المرشد الثقافي الاخر للصبي ماركس كان صديق هينريك البارون لودويغ فون ويستفالين المثقف والليبرالي والموظف الحكومي الذي عرف كارل الشعر والموسيقى (ولابنته جيني، السيدة كارل ماركس مستقبلا). وفي نزهاتهما الطويلة كان البارون ينشد مقاطع من هوميروس وشكسبير التي سيحفظها مرافقه الشاب عن ظهر قلب، وسيستعملها لاحقا كتوابل في كتاباته.
استعاد ماركس سنن تلك النزهات السعيدة، في كبره، مع فان ويستفالين بمشاهد خطابية من شكسبير ودانتي وغوته اثناء صحبته لعائلته الخاصة بهابمستيد هيث في نزهات الاحد. كان هناك اقتباس لكل مناسبة: لتدمير خصم سياسي، لانعاش نص جاف، لتقوية طرفة، لتأصيل عاطفة او لادخال حياة في تجريد ميت، كما تتكلم الرأسمالية نفسها بصوت شايلوك (في المجلد الاول لرأس المال) لتبرير استغلال العمال الاطفال في المصانع:
احتج العمال ومراقبو المصنع لاسباب صحية واخلاقية، لكن الرأسمالية اجابت:
عملي في رأسي! اتوق الى القانون، العقوبة والغرامة في تعهدي.
للبرهان على ان المال هو مساو جذري يقتبس ماركس حديثا من تايمون اثينا عن المال بوصفه ((العاهرة المبتذلة للجنس البشري)) واتبعه بواحد اخر من انتيغون سوفوكليس ((المال، المال لعنة الانسان، لا أحد أكبر!/ هذا ما يؤدي الى انهيار المدن/ تبعد الرجال عن الوطن/ تغوي وتضلل اصدق الارواح/ ودالة على طريق السوء والعار)). الاقتصاديون ذوو التصنيفات والنماذج المنطوية على مفارقات تاريخية شبهوا الدون كيخوته الذي ((دفع ثمن التصور الخاطئ في ان الفارس - المغامر كان منسجما مع كل اشكال المجتمع الاقتصادية)).
طموحات ماركس المبكرة كانت ادبية. وبينما كان طالب قانون في جامعة برلين كتب كتابا شعريا ودراما شعرية وحتى رواية، (العقرب وفيلكس) تأثرت بالاستطراد الواسع في رواية تريسترام شاندي للورنس. بعد هذه التجارب اعترف بالهزيمة:
فجأة كما لو ان بلمسة سحرية- اوه، اللمسة كانت في البداية ضربة محطمة- امسكت بمشهد المملكة البعيدة للشعر الحقيقي مثل العجائب البعيد، وكل كتاباتي انتهت الى لا شيء... اسدلت الستارة، اقدس مقدساتي تمزقت اربا، وآلهة جدد يجب تعيينها.
بسبب معاناته من انهيار عصبي، امره طبيبه ان ينزوي في الريف ويأخذ راحة طويلة- حيث استسلم الى صوت سيْرانة هيغل، استاذ الفلسفة بجامعة برلين المتوفى حديثا، الذي ميراثه موضع خلافات بين الطلبة والمحاضرين. في الجامعة، ماركس ((اتخذت عادة تجميع مختصرات للكتب التي اقرأها))- عادة لم يتخل عنها ابدا. قراءات قائمة من هذه الفترة تبين مدى النضوج المبكر لاكتشافاته الثقافية. خلال كتابته لمقال في فلسفة القانون، كتب دراسة تفصيلية في تاريخ الفن لوينكلمان، بدأ يعلم نفسه اللغتين الانكليزية والايطالية، ترجم جرمانيا تاسيتاس وبلاغة ارسطو طاليس، وقرأ فرانسيس بيكون ((وقضاء مقدار جيد من الوقت مع ريمارس، كتابه حول الغرائز الفنية للحيوانات التي انككبت عليه بسرور)). هذا هو الاسلوب الانتقائي والملتهم والمنحرف دائما نفسه للبحث الذي منح رأس المال اتساعه الخارق في المصادر.
بينما كان طالبا كان ماركس مفتونا بترسترام شاندي، وبعد ثلاثين سنة، وجد موضوعا سمح له بتقليد اسلوب فضفاض وغير مترابط سبقه اليه ستيرن. مثل تريسترام شاندي، رأس المال مليء بالمفارقات والفرضيات، والشروحات المبهمة والجنون الغريب، وسرود متقطعة وغرائب مثيرة للفضول. كيف من غير ذلك يمكن ان يبرر الغموض والمنطق الفوضوي للرأسمالية؟
في النشيد الخامس من (المطهر) يسأل فيرجيل دانتي قائلا ((ما علاقتك بثرثرات الناس هنا، اتبعني ودع الناس تتحدث)). وفي غياب فيرجيل يوجهه، يعدل ماركس سطرا من مقدمة الجزء الأول من رأس المال، ليحذر من أنه لن يقدم أية تنازلات من أجل تحيز الآخرين: ((الآن وفي كل الأوقات، أحتذي بمقولة الفلورنسي العظيم: امض في طريقك ودع الناس تثرثر)). إذا بداية يعد الكتاب موجها الى المناطق السفلى، وحتى في خضم كل التعقيدات النظرية، ينجح ماركس في نقل صورة حية للمكان والحركة.
إذا دعونا نترك هذا الجانب الصاخب من السوق، الذي يتم فيه كل شيء أمام أعين الناس، ويبدو أن كل شيء فيه منجز بشكل علني وقانوني. سنتبع بدلا من ذلك مالك المال والقوة العاملة لخط الإنتاج الخفي، ونتجاوز بذلك عتبة المدخل الذي يحمل فوقه لافتة تقول ((الدخول ممنوع إلا لقضاء أمور العمل)). هنا، لا نكتشف فقط ما الذي ينتجه رأس المال ولكن كيف ينتج هو نفسه. وسوف نكتشف سر صناعة القيمة المضاعفة.
وعادة ما تبرز الخلفية الأدبية لرحلة ماركس هذه وهو يتابع طريقه. يصف معامل الكبريت الانكليزية، حيثنصف العاملين فيها من القاصرين (يبلغ البعض منهم سن السادسة فقط) وظروف العمل سيئة لدرجة أنه، يكتب ((فقط أكثر الناس بؤسا من الطبقة العاملة، الأرامل نصف الجائعات وغيرهن، يدفعن أطفالهن لمثل هذه الظروف)).
مع عمل لمدة اثنتي عشرة ساعة الى اربع عشرة او خمس عشرة ساعة يوميا، عمل ليلي، اوقات غير منتظمة للطعام ووجبات تؤخذ على الاغلب في غرف العمل نفسها، معدية مع الفسفور، كان دانتي سيجد هذه الصناعة تفوق جحيمه رعباً.
تزود الجحيم المتخيلة الاخرى زينة اضافية لصورته من الحقيقة التجريبية:
((حشد لعمال كل الحرف ومن اعمار واجناس مختلفتين يتجمع حولنا بسرعة اكثر من ارواح القتلى حول اوليسيس، منه لمحنا علامات العمل الاضافي من دون الرجوع الى الكتاب الازرق تحت ابطه، دعنا نختار شخصيتين اخريين مقارنتهما اللافتة تبرهن ان الرجال على حد سواء في مواجهة رأس المال- بائع القبعات النسائية والحداد)).
هذه اشارة خاصة لقصة عن ماري آن والكلي، التي كان عمرها عشرين عاما عندما ماتت ((من الافراط في العمل)) بسبب الشغل لأكثر من ست وعشرين ساعة في صناعة قبعات نسائية اهدتها اميرة ويلز لضيوفها في حفلة راقصة عام 1863. موظفتها (سيدة بأسم لطيف إليز، كما يذكر ماركس ساخرا) فزعت لأنها رأتها ميتة من دون ان تكمل قطعة الملابس التي كانت تطرزها. هناك نسيج ديكنزي في معظم رأس المال، وماركس يعطي اشارة صريحة وعرضية للكاتب الذي يحب. ها هنا مثال هو كيف يضرب المدافعون عن البرجوازية الذين يدعون ان انتقاداته لتطبيقات محددة من التكنولوجيا تظهره عدوا للتقدم الاجتماعي، لا يريد للآلات ان تستخدم البتة:
هذا هو تماما منطق بيل سايكس، القاسي الشهير. ((السادة المحلفين، ليس هناك شك في ان حنجرة هذا الرحالة التجاري قد ذبحت. لكن هذا ليس ذنبي، انه ذنب السكين. هل يجب، من اجل ازعاج مؤقت، نلغي استخدام السكين؟ تأمل ذلك! هل تكون الزراعة والتجارة من دون سكين؟ أليست هي مفيدة في العمليات الجراحية كما هي مفيدة في التشريح؟ ومساعد على اهبة الاستعداد على مائدة الاحتفال؟ اذا الغيت السكين ستقذف بنا الى اعماق البربرية)).
لم يصنع بيل سايكس مثل هذا الخطاب في (اوليفر تويست): انه استنباط ماركس الهجائي. ((انهم عبيدي))، يقول احيانا، مشيرا الى الكتب التي في مكتبته، ((يجب ان تخدمني كما ارغب)). مهمة هذه القوة العاملة غير المدفوعة الاجر هي توفير الخامات التي يمكن ان تتشكل لاغراضه الخاصة. كتب صحفي من شيكاغو تريبيون عندما زار ماركس في عام 1878 ان ((حديثه لا يجري في اخدود واحد، بل انه يتنوع كما تتنوع المجلدات التي تقبع على رفوف مكتبته)). وكتب اس اس براوير في عام 1976 كتابا من 450 صفحة كرسه لمراجع ماركس الادبية. المجلد الأول من رأس المال اثمر عن اقتباسات من الكتاب المقدس، شكسبير، غوته، ميلتون، فولتير، هومر، بالزاك، دانتي، شيلر، سوفوكليس، افلاطون، ثيوسديدايس، زينوفون، ديفو، سرفانتس، درايدن، هيني، فيرجيل، جوفينال، هوراس، توماس مور، صامويل بتلر - واشارة الى قصص الرعب، الروايات الرومانسية الانكليزية،القصص الشعبية، الاغاني والاناشيد، الميلودراما والمسرحية الهزلية، الاساطير والامثال.
ماذا عن منزلة رأس المال الادبية الخاصة؟ علم ماركس انه لا يمكن كسبها بشكل غير مباشر، بمجرد عرض لزهور الرجال الاخرين. يزدري في المجلد الاول اولئك الاقتصاديين الذين ((يُخفون تحت اطار المعرفة الادبية التاريخية، أو تحت خليط من مواد غريبة، شعورهم بالعجز العلمي و احساساً غريباً بأن عليهم ان يعلموا الاخرين ما يرونه هم بانفسهم موضوعا غريبا)). الخوف من انه هو ايضا قد ارتكب هذا الجرم قد يفسر الاعتراف المؤلم، في الكلمه الختامية في طبعته الثانية، ان ((لا أحد يستطيع أن يشعر بالنقص الأدبي لرأس المال بالقوة نفسها التي اشعر بها)). ومع ذلك، فمن المستغرب ان عددا قليلا جدا من الناس اعتبر الكتاب كتاب ادب. قد فرخ رأس المال نصوصا لا تحصى تحلل نظرية القيمة او قانون انخفاض معدل الربح، ولكن فقط حفنة من النقاد ابدوا اهتماما جادا لطموح ماركس المعلن- في عدة رسائل الى انغلر- لانتاج أي عمل فني. احد العوائق، ربما، هو ان البنية المتعددة لرأس المال تتملص من التصنيف السهل. تكمن قرأءة الكتاب بوصفه رواية قوطية ضخمة ابطالها استعبدهم والتهمهم الوحش الذي اخترعوه ((الرأسمال الذي يأتي الى العالم الملوث مع دم من الرأس الى اخمص القدمين ونزيزه من كل مسام)) او مثل الميلودراما الفكتورية او الكوميديا السوداء في فضح ((الوهم الشبيه بالموضوعية للسلع لكشف الفارق بين الظهور البطولي والواقع غير المشرف، استخدم ماركس احد الاساليب الكلاسيكية للكوميديا، عندما جرد فارسا انيقا من درعه ليكشف عن رجل بدين وقصير في ملابسه الداخلية)) او بوصفه تراجيديا اغريقية ((مثل اوديب، الممثلون في سرد ماركس لتاريخ الانسانية هم في قبضة ضرورة لا مفر منها تنمو بنفسها مهما فعل الاخرون)) (كما يكتب سي فرانكل في ماركس والفكر العلمي المعاصر). او ربما هي الطوباوية الساخرة مثل بلاد هوويهنهنمس في رحلات غيليفر حيث كل امكانية تبتهج والانسان، فقط، حقير: في نسخة ماركس للمجتمع الرأسمالي، كما هو حال فرس الفردوس الزائف لجوناثان سويفت، عدن الزائفة اوجدها تحويل البشر العاديين الى منزلة الياهو YAHOOS من المعزولين العاجزين.
لانصاف المنطق المشوش للرأسمالية، نص ماركس مشبع بالسخرية - السخرية التي هربت حتى الان من معظم العلماء على مدى 140 سنة. والاستثناء الوحيد هو الناقد الاميركي ادموند ويلسون، الذي جادل في(الى محطة فنلندا: دراسة في كتابة وعمل التاريخ - 1940) ان قيمة تجريدات ماركس- رقصة السلع، القطبة المتصالبة للقيمة- هي أساسا سخرية، الى جانب انها قاتمة وموثقة بشكل جيد لمشاهد البؤس والقذارة التي تخلق القوانين الرأسمالية في الممارسة. عد ويلسون رأس المال محاكاة ساخرة لعلم الاقتصاد الكلاسيكي. اعتقدَ، ان لا أحد عنده القدرة على رؤية مخيفة تستطيع البشرية أن تتجاهل أو لا تبالي أمام آلام الاخرين عندما تكون عندنا فرصة للحصول على شيء منهم. ((في التعامل مع هذا الموضوع، اصبح كارل ماركس واحدا من اعظم سادة الهجاء. ماركس هو بالتأكيد اكبر ساخر منذ سويفت ويشترك معه بقدر كبير في ذلك)).
فما هي، إذن، الصلة بين خطاب ماركس الادبي الساخر ووصفه (الميتافيزيقي) للمجتمع البورجوازي؟ لو كانت عنده رغبة في انتاج نص صريح عن علم الاقتصاد الكلاسيكي لفعل!، وهو في الحقيقة قد فعل. هناك محاضرتان القاها فى حزيران/ يونيو 1865، نشرتا مؤخرا تحت عنوان القيمة والسعر والربح، تعطيان موجزا وخلاصة واضحتين لنظرياته عن السلع والعمل: رجل يقدم مقالا لاستخدامه الخاص، لاستهلاكه هو نفسه، يخلق منتوجا وليس سلعة... السلعة لها قيمة، لأنها بلورة العمل الاجتماعي... السعر اذا اخذ بمفرده، ليس سوى التعبير النقدي للقيمة... ما يبيعه العامل ليس عمله المباشر؛ انه قوته العملية، الطرح الموقت لما يقدمه الى الرأسماليين... وهلم جرا.
مهما كانت استحقاقاته (يعني المحاضرتين ndash; الكتاب)، كتحليل اقتصادي، يمكن ان يفهم هذا أي طفل ذكي: لا استعارات مفصلة أو ميتافيزيقاء، لا استطرادات محيرة او نزهات فلسفية، لا زخارف ادبية. فلماذا رأس المال، الذي يعالج الموضوع نفسه، يختلف تماما في الاسلوب؟ هل فقد ماركس فجأة موهبة الكلام الواضح؟ طبعا لا: في الوقت الذي ألقى هاتين المحاضرتين كان قد اكمل ايضا المجلد الاول من رأس المال. توجد اشارة في أحد القياسات القليلة جدا التي سمح لنفسه بها في القيمة والسعر والربح، عندما وضح تصوره بأن الارباح تنجم عن بيع السلع بقيمتها (الحقيقية)، وليس كما قد نفترض، عندما نضيف رسوما. كتب ماركس ((يبدو هذا مفارقة وعلى العكس من الملاحظة اليومية)). ((ومن المفارقات ايضا ان الارض تدور حول الشمس، وان الماء يتألف من غازين شديدي الاشتعال. الحقيقة العلمية دائما تكون مفارقة، اذا حُكم عليها بالتجربة اليومية التي تدرك فقط الطبيعة الوهمية للاشياء)). وظيفة الاستعارة هي ان تجعلنا ننظر إلى شيء جديد عن طريق نقل الصفات الى شيء آخر، وتحول المألوف الى غريب او العكس. الناقد الفنزويلي لودوفيكو سلفا، المتخصص بماركس، قد اعتمد المعنى الاصلي للاستعارة بوصفها نقلا ليحاجج بأن الراسمالية هي نفسها استعارة، عملية منافرة تزيح الحياة عن الذات الى الموضوع، من استخدام القيمة الى تبادل القيمة، من الانسان الى الوحشية. في هذه القراءة، الاسلوب الادبي الذي اعتمده ماركس في رأس المال ليس قشرة زاهية الألوان وضعت على بلاطة غير جذابة للتفسير الاقتصادي، مثل مربى على خبزة محمصة سميكة؛ انها اللغة الوحيدة الملائمة للتعبير عن ((الطبيعة الوهمية للاشياء))، مغامرة وجودية لايمكن حصرها ضمن حدود واعراف نوع قائم مثل الاقتصاد السياسي او العلوم الانثروبولوجية او التاريخ. باختصار، رأس المال كتاب فريد من نوعه تماما. ليس هناك شيء يشبه ابدا لا من قبله ولا من بعده، و ربما هذا هو سبب اهماله او سوء تأويله. لقد كان ماركس بالفعل احد اكبر العمالقة المعذبين.
التعليقات