شاعر الكيبيك غاستون ميرون
قضية الاستقلال في خدمة الشعر



ترجمة وتقديم عبدالقادر الجنابي: قلما تخلق قضايا الاستقلال في العالم شعراء حقيقيين، شعراء قادرين على ان يجعلوا من قضية تحرر أوطانهم قضية شعرية محضة تكون جزء من الكونية الشعرية. فاغلبهم يخضعون لمطبات التحرر الوطني فيعود شعرهم مرتبكا، بل مجرد قصائد مرحلية على حساب الشعر. لكن هناك عددا جد بسيط، استطاعوا ان يرتفعوا بقضية تحرر أوطانهم الى مصاف الشعر الكوني، من بينهم ليوبولد سنغور والشاعر الكندي غاستون ميرون.

ولد ميرون سنة 1928 وتوفي عام 1996. بعد قراءات وحياة فقر، يكتشف سنة 1949 الشعر الحديث بالاخص رينيه شار. والصدفة تجعله في نفس العام يتفهم مسيرته
الشعرية المقبلة عندما يقرأ الأبيات الاولى من قصيدة باتريس دولاتور دوبان quot;البحث عن البهجةquot;: quot;كل البلدان التي لا تمتلك أسطورة محكوم عليها بالموت في البردquot;.
تبدأ رحلة تسكعه في الوسط البوهيمي لمدينة مونتريال مساهما في كل نشاطاتها وحركاتها الطليعية. ينشر قصائده الاولى سنة 1952 في احدى المجلات. لكن سنة 1953 يؤسس مع أصدقاء له دار quot;الهيكساغونquot; التي ستصبح لمدة ثلاثين عاما أهم دار نشر في مونتريال تعنى بنشر الشعر المكتوب بالفرنسية. بقي ينشر قصائده في المجلات والجرائد والانطولوجيات حتى جمعها سنة 1970 تحت عنوان سيبقى خالدا ومعبرا عن كل تجربته الشعرية: quot;الرجل المبعثرquot;. ناضل بكل أدواته اللغوية من اجل استقلال كيبيك والدفاع عن لغة كندا الفرنسية.
قصائده بحث عن المكان وبلغة مشحونة بعاطفة تسخر من كل العواطف المائعة، وبصور صارمة الغنائية تتدفق من بين التناقضات التراكيبية، مرورا بالفجائية الصادمة حتى تصل مرادها الأسمى: قصيدة كونية بكل معنى الكلمة. أرض كيبيك تتنفس في كل قصيدة من قصائده وكأنها السماد الأرضي للمخيلة الشعرية، كيبيك بحيواناتها الضارية، بثلوجها وجبالها، بشسوعها الممتد بردا تتلألأ فيه أشعة شمس هابطة من لا سماء. غاستون ميرون شاعر عرف كيف يعجن قضية قومية ليمنحنا رغيفا ذا نكهة كونية خالصة. هنا ثلاث قصائد من كتابه: quot;الرجل المبعثَرquot;:

قرونِ الشتاء

الرصاصيْ، المنكودْ، الأسمرْ، الصَلِبْ
ها أنتَ يا بلداً تتصدَّعُ في جَمالِ البردِ الطيفي
في سيل الحرجيات، في أخَويِّاتِ الصنوبر
في التـَّـنـّوب وما شابهَ ذلكْ
بين الصخورِ والعُدوانيات.

يا بلداً بلا أسلافٍ
إنكَ تتدفّقُ فوقَ أميالِ من الاصطبارِ المنهوك
في ريفٍ مذعورٍ من الفراغ
في مدنٍ حيثُ ضُمورُكَ يحرِقُ وجْهَكَ
أما نحن فحبنا مُفـْرَغٌ من آثاثِه
وكأننا مجمدونَ بالموتِ والهوان

ليس بوسعِكَ عملَ أيَِ شيءٍ في الفيضِ الآسرْ
إنكَ تَرتجِفُ في ظهورنِا على نارٍ خفيفةْ.


التراثُ والخَلَفْ

وكانَ عندما جاءَ
طيرٌ أبديٌُ
تَحول منذ وقت طويل إلى غسقٍ

الطيرُ هذا اليومْ
بذاكرةٍ آتيةٍ من البعيد
يطير في خُطى الإنسانْ .

خلف نَوْرَجِ الشموسِ.

لا فائدةَ من جعلِ الحياةِ تتقَهْقَرُ
فغداً سنأخذُ قبضةً ملَْ أنفُسِنا في مرآتِه الخلفية
ها أننا نتهاوى سلفا بُرادةَ حديد في المستقبل.

أتعجَلُ قبل سنوات
المستقبلُ في المنشأ.

(أينَ، متى؟) لكنْ يَحْدُثَ
أن تنبثِقَ امرأةٌ من بياضِها
في جوارِ الأبدية العابرةْ
رغمَ أنَّ الأفُقَ أنزلُ من عالمنا
الزمن (عندما) أنْ يولدَ
أبديةً زائلةً

بهذا الشتاءْ الذي يُهلّلُ
في قاعةِ - صيدِ الكلمات
هنا وهناك تَيَهانٌ وثباتٌ
على نِيرِ الغفلة المفاجئ
حيثُ يُضاءُ نسلُ الأسلافْ.

في نظرة الطفولة
أفُقُ مستقبل بالماضي

للأبدية أيضا جذورٌ
أبديةٌ (أبديةْ)
إلى حد التراث غداً
يا حَدأةَ عينَيَّ

في العُمرِ العاريْ
أكثرَ عرياً من حَجرةٍ كَمداء.

عدتُ أخيراً نحو دروبي
المناظر التي تُحددُّها باتجاهٍ معاكسٍ.

أُبْديْ بضعَ كلماتٍ
يُرددُها أحدٌ وكأنها صداهُ.

في ازدهار الأحلام
يا بُنيَّتي إيمانويل
أُعطيكِ كلَّ ما أتعلَّمُهُ من جديدْ.


كل واحد

كل واحد قدماه
في خطاه

كل واحد دموعه
في متسع العينين

كل واحد يدُه
في الصَدَقة

في المراكب ذات الصواري الثلاثاء
كل واحد أحلامه

داؤه البارودي
في رغباته

داؤه الغموضي
في أفكاره

في وجبة الأكل
كل واحد سنّه

كل واحد عنُقه
في الحب

كل واحد، كل واحد

كل واحد عظامُه
في القبر