د. رغيد النحّاس: كلما كان يأتي صباح سبت أو أحد كنت اتصل بصديقي نويل عبد الأحد لتلتقي سيدني وفينيكس ويتحدث أسترالي عربي من أصل سوري- لبناني مع عربي من أصل فلسطيني يعيش في الولايات المتحدة الأميركيّة.أما الحديث فيتجاوز عتبة الزمان والمكان ولا يعبأ بطغيان التاريخ أو الجغرافيا لأنه حديث شخصين جمعهما الإنفتاح الذي يجتاز الحواجز ويختصر المسافات.
الأحاديث كانت تستمر لأكثر من نصف ساعة كل مرّة، وربما تجاوزت الساعة مرّات، نتناول فيها أحوالاً سياسيّة واقتصاديّة، ثم نركّز على شؤون الفكر والأدب خصوصاً حين كنت أصدر مجلة كلمات التي كان نويل عبد الأحد أحد مستشاريها، ومن تواضعه رفض إرسال صورة شخصية لنستعملها في موقعنا الإلكتروني ما اضطرني لإيجاد رسم له بريشة الفنان المخرج السوري نبيل المالح حصلت عليه من طريق شقيق نويل وهو الأستاذ يوسف عبد الأحد.
لكن نويل كان لي أكثر من ذلك، فقد حمل معي همّ المجلة منذ صدورها، وبذل جهداً راقياً وكبيراً للترويج لها في أميركا والعالم، وحين كنت أكلّفه بمراجعة وتقويم بعض المواد كان يستجيب مباشرة وينهي مهمته قبل الموعد النهائي، وغالباً خلال يوم أو يومين. كان يقدم مراجعاته بموضوعية وحرفانية متناهيتين.
قدم نويل لـquot;كلماتquot; مساهمات كثيرة خصوصاً ترجماته الشعرية. كانت أولاها ترجمته الإنكليزية لقصيدة quot;في العلياءquot; للشاعر حكمت العتيلي الذي كان يعيش في الولايات المتحدة أيضاً إلى يوم وفاته العام الماضي. وقدم بعدها ترجمات إنكليزية أخرى للعتيلي ولشعراء آخرين مثل محي الدين اللاذقاني، مي مظفر، كمال خير بيك، نوري الجراح، زكي الجابر، عيسى البطارسة، شوقي مسلماني، سعدية مفرح، فدوى طوقان، غادة السمان، سلوى السعيد، ميلود لقاح، عصام ترشحاني وأحمد فضل شبلول. أما ترجماته إلى العربية فتناولت أعمال شعراء مثل غليندا فوكس، كلاريبل أليغريا، جون شبرد ودنيس بيرنشتاين.
ومن مقالاته واحدة عن جبرا إبراهيم جبرا وأخرى عن بطرس عنداري. أما أعماله خارج كلمات فهي أكثر من ذلك بكثير، ودائماً يُذكر نويل بترجمته الرائعة لكتاب quot;النبيquot; ـ جبران خليل جبران. وكانت له صلات فكرية ومهنية وثيقة مع بعض كبار الكتاب وخصوصاً مع غادة السمان.
وقبل شهرين لم أعد أحظى بنويل. كلما اتصلتُ به كان الهاتف يرّن دون جواب. وكثّفتُ محاولاتي وأمضيت أحد الأيام أتصل كل ساعة إلى أن جاءني صوت نويل وكانت الساعة منتصف النهار بتوقيت مكان إقامته. قال إنه عاد إلى البيت للتوّ... جاء يلملم بعض الحوائج إذ أن بعض أقاربه استضافه لفترة. علمت من حديث نويل أنه اضطر لدخول المستشفى عدة مرّات لكن كل شيء الآن على ما يرام. كنت أعلم أن تواضعه وحساسيته تمنعه من تحميلي أعباء المحنة التي يمر بها. أما أنا فما كان يهمني هو سماع صوته لذلك لم أسأله عن التفاصيل.
منذ ذلك الحين وأنا أتّصل كل يومي سبت وأحد دون أن أحظى بردّ نويل وسماع صوته العذب المريح للإعصاب لما فيه من أناقة وتهذيب. وعلمتُ في قرارة نفسي أن الأمر خطير لكنني ما تصورت أن هاتفي سيرن لينبئني صديقي الشاعر شوقي مسلماني بالخبر القاتم ويعزّيني بوفاة نويل عبد الأحد. نويل الذي تعاون معي على ترجمة ديوانين هما quot;أوراق العزلةquot; وquot;حيث الذئبquot; للشاعر مسلماني ذاته.
نويل كان مهذباً، راقياً في حديثه وفي تعليقاته ومراجعاته، كان يقبل النقد، بل يسعى إليه ويحكم على الأمور بمنتهى الموضوعية مما جعله يقبل بتغيير ترجمات قام بها بمجرد أن تنجلي له مصداقية مَن يقدّم له النقد.
وتعودُ إليّ صباحات السبت والأحد وفي القلب غصة وفي الفكر فراغ.
وداعاً نويل، إن كان منزل آخر فلا أشك أن صدارته سيكون لأمثالك، وإن كان لنا لقاء آخر فعسى أن نرتفع إلى مرتبتك لنحظى برؤية وجهك الكريم وسماع صوتك الرخيم.