(رجاء لا يكلمني أحد, فأنا خارج لملاقاة المرأة التي أحب..
أنا الهلال الناحل.. خارج كي أكتمل.)

في البدء كان الضجر..
الضجر ما قذف بي إلى غرف الدردشة أخوض غمار العلاقات الإفتراضية.. ثم الفضول: ذاك الأكلان الأزرق في أحراش الذات, المحرض على المجازفة بالسقوط في المهاوي الخطيرة.. ثم..
ثم الدهماء..
حين تهادت..
حين قالت العالم بكلمات القلب الشفيف, وعلقت روحي بأسلاك من السليكون إلى ضوئها الباهر.
كان التوتر بيني وبين زوجتي قد بلغ مداه. المطبات الكثيرة والحرائق والآلام المصاحبة.. ولا بارقة أمل في الحد الأدنى للتناغم: هدية الزمن لكل زوجين عمرا طويلا في الشراكة..
صارما بيننا صحراء من جليد, وفراغات مديدة..
وبدت غرفة الدردشة مزدحمة باللغط مثل برج بابل حقيقي لتمتمة اللغة.. أسماء مستعارة تصدم العين بالتحية ثم تغيب بعد حين.. حوارات مجتزأة, رسائل للإستغفال والنصب, أفكار مسبقة وفيض بذاءات.. نثرت بدوري ملحا زائدا في بعض الطنجرات ورشت البعض بسهام بليغة.. ثم توصلت إلى أن العالم يحتاج إلى من يشده من كاحليه وينفضه جيدا حتى يطرح ما في جيوبه من رداءات.
نقرت الفأرة دون حماس أجهض انطلاقة جملة بدت لي دون طعم.. quot;ليس جميلا أن نقتل الضجر بالإبتذالquot; قلت.. وفكرت في الخروج من الغرفة, حين هبت نسمة ندية من واحة بالقرب:
- ضجر.. أنت يا ضجر, عندي دواء لك.
حطت الكلمات على الشاشة ممهورة باسم quot;الدهماءquot;.
كنت دخلت الغرفة باسم quot;ضجرquot;, فقدحت الدهماء جذوة في حقول الرماد.. استفزت حاجة ملحة إلى الركض خلف صهيل واعد بالسهوب.
- قد يبدو دمي خاثرا لكن عنصري النار, فأي دواء تملكين لرمادي العابر أيتها القادمة من زمن الحرائق.
أجبتُ..
وكما لو أننا عشنا من قبل حياة كاملة انسابت الكلمات بيننا كالمطر الرحيم المخصب..
عرفت أنها متزوجة أيضا..
في مجرى سوء تفاهم أبدي مع الزوج.. تخيط للخيبة داخل البيت ألف حكاية وحكاية, وتحلم في لياليها المسهدة بعصفور لقاح لوهج القلب..
كنا كائنين من خدر..
روحين تعارفتا, ورقصتا لبعضهما البعض فرحا باللقاء.. حتى إذا اكفهرت الشاشة بكلمة الوداع, سقت قلبي الجرو إلى داخل بيت الزوجية.. وبالبرود الذي صار يطبع علاقتنا, لاكت زوجتي بضع كلمات فهمت منها:
- يمكنك تسخين العشاء.. أنا ذاهبة لأنام..

(فهل كنتِ حلما؟
ما لي أرى تربة القلب حبلى..
والعين بيضاء رخيمة إزاء كدارات العالم؟)

وفي الغد..
هرولت إلى غرفة الدردشة بشوق من يطأ الأرض الموعودة بعد طول اغتراب.. quot;أوليسquot; لم يكن بعيدا عن الذهن, وبنيلوب في صدر البيت تنسج من أوراق الإنتظار المرة شتيلة للدفء الآتي.. فهل تهلين اليوم كما وعدت أيتها الدهماء؟
- أنا هنا.. أنظر إلى هذه الناحية.
- كلي عين تراك سيدتي..
- عين؟ مجرد عين؟
قالت مستفزة..
- بل بحر شوق ولهفة..
- كم اشتقت إلى كلماتك أيضا..
فليكن جنونا
ليكن ما يكون.. ذاك الخيط المترع بالنشيد الذي وصل بيننا, والأحاسيس المورقة التي صببنا عليها من عطر الروح.. تحادثنا.. تناجينا.. وبدا العالم جميلا مرهفا.. تعريشة باذخة من أوراق العنب والبنفسج توارينا داخلها ونسينا كل شئ آخر..

(أهو العشق إذن؟
يقتحم خزان القلب بطاقة بديلة..
ترى من تكونين.. ما شكلك, ما اسمك؟
أيعقل هذا؟ أيعقل هذا؟)

وعرف البيت أياما هادئة للغاية..
كأن معطرا للجو ضخ نثاره في الفضاءات ورسم للعلاقة بيني وبين زوجتي أبهاء جديدة.. ترمقني أحيانا بطرف العين كما لو أنها تسبر غوري, تستجلي أسباب السلام الداخلي الذي صار يرخي بظلاله على حركاتي مثل خيمة من زعفران.. وأتابعها خفية أستكنه سر خطواتها التي لا شك استعارتها من دفتر للفراشات.
أهي الغيرة والتوجس؟
حدس النساء الذي لا يخيب, وخميرة الأنوثة التي تفيض وقت الحاجة؟
نهر ينساب بيننا طول النهار ونحن على الضفتين نمارس تمارين الإنتماء إلى صباحة الكون.. وفي المساء, أخرج مهرولا إلى شرنقتي الإفتراضية.. واقعي الموازي العذب كبوح القصيد..
- عصفورتي الجميلة
- صقري الأصيل
- فرسي الباذخة
- حصاني المجنح
لم يعد في الأمر أي تحفظ..
كنا نعيش قصة حب..
جميلة.. عنيفة.. مجنونة.. تزداد اشتعالا كل يوم.. وكل يوم تطوح بنا إلى مدارات أخرى للحميمية والتوحد.
سقطت جدارات الدفاع الواحد إثر الآخر وصرنا عاريين وضعيفين إزاء لهفتنا التي ما فتئت تسوق القلب إلى انتهاك المحاذير..
وباتت الخطوة الأخيرة ضرورية: خرق العقد الأول القاضي بأن نكتفي بالطابع الإفتراضي للعلاقة حيث لا لقاء جسدي ولا أسماء حقيقية أو عناوين..
- خائفة من الآتي.. كأني سأفرط في حلم هدهدته زمنا
قالت في آخر اختلاجة متوجسة..
لكن الشوق الرغبة اللهفة انتهت إلى هد كل القلاع, فحددنا موعدا للقاء.

(سأراك إذن..
وتلمس يديك يداي.. )

تركت زوجتي تهيئ نفسها لمغادرة البيت (لزيارة صديقة؟) وانسللت عبر الباب..
خفيفا ودون كدر..
خفيفا ومترعا بالضوء وفي أجلى حالات الصفاء الداخلي واستطابة الحياة..
طباع الناس وتلاوين الأزقة والأحلام وزحمة المواصلات والأحقاد الصغيرة.. رنة الألم العابر وجسور المودة ودم القتل.. ضجيج العلاقات والنقائص الفادحة ورعشات الطبيعة وجمال الفن..
تلك الأشياء..
كل الأشياء الصغيرة, الضالعة في تأثيث العالم التي تدفعنا إلى خوض حروب لا طائل منها تحت ذريعة نشدان الإكتمال.. تدفعني الآن بقلب واجف إلى احتضان الألوان الباذخة لفرسي الأصيلة.. ربيبة الإنطلاق والجموح.
ترى ما شكلك؟ أي لحن لرنة الجسد؟
وأتت في الموعد..
بعد زمن يسير تحرقت فيه الجوانح, لاحت مثل.. مثل..
ياه.. كم هي الحياة شديدة المكر غريبة حد القسوة.. كم هي لعوب وماكرة..
سطوة الذات وتواري الآخر..
والصدأ..
الصدأ المتراكم في خضم اليومي المبتذل, الذي يعشي البصر والبصيرة فلا يرى الإنسان أبعد من أنفه..
لا يرى في شريكه ما يجدر رؤيته.. وأن الرماد الذي استشرى في بيت الزوجية قد ينبعث من أفق علاقة افتراضية وهجا ونارا حارقة..
لقد كانت الدهماء التي تيمت بها افتراضيا هي نفسها..
نفسها..
هي نفسها..
زوجتي!

(ماذا سيحدث الآن؟)