لا بدّ الإفصاح: انّها المرة الاولى التي أكتب إليك فيها، متطفلا ً على مهمّة موظفي المناسبات الثقافيّة، التي تتكرّر في مثل هذه الايّام من كلّ عام، حيث التأريخ الذي غيّرت فيه عنوانك، من المشفى الأميري في الكويت الى جوار مرقد الحسن البصري في مدينتك البصرة، وكنت برفقة الشاعر الكويتي علي السبتي، وهو الشاهد من الاخير على إستبدالك الحياة بالخلود، واستملاكك الأبدي للمطر، الذي قيل أنّه رافقكم بهطول ٍ متزامن ٍ ومضاعف طوال الرحلة (وهو ما أكّده جبرا ابراهيم، بالإضافة الى السبتي).
فهل ثمّة داع ٍ لإخبارك بعد هذا، بأنّني لم أحسبك راحلا ً يوما ً، وانّ الثلاث والاربعين عاما ً الماضيّة، يتأكّد فيها حضورك كلّ عام، لانّك (وهو بالمناسبة، ما يصيبني بالغيرة منك) كتبت نصوصا ً لا يطالها الفناء ولا الشيخوخة، فقد كنت مولعا ً بالحياة وبقوى الطبيعة وبرموز الخلق، رغم حياتك الموغلة بالألم والحزن والفاقة والعوز والمطاردة، وما يشدّني إليك أيضا ً، ذلك الاحساس العالي بالإنتماء والنبل والحلم والحكمة، بينما محيطك ملئ بالقسوة والخراب والوشاية!
انت الان في الثامنة والثلاثين من العمر، وما زلت كذلك، بينما أنا من عمر إبنك غيلان، وقد تجاوزنا الخمسين (بالمناسبة، كان غيلان طالبا ً معي في جامعة البصرة، وهو شبيهك تماما ً، لكنّه قليل الكلام، وكانت له محاولات في القصّة القصيرة، لا أعلم إن كانت قد تطوّرت لاحقا ً، وقد أفحمه حضورك في حياته، كما نحن في كلّ عام، وكانت تأتيه الوفود من كل فج ٍّ، من فرنسا واميركا ولندن وسواها، من طلبة الدراسات العليا للتخصّص في شعرك، يسألونه: كيف كنت تكتب، ومتى وكيف وأين.. الخ)، وغيلان الان لاجئ في استراليا، صموت كعادته، لكنّه لا يتاجر بك، كما يفعل بعض أبناء وأحفاد الشعراء العرب، وأنا لاجئ في اسكندنافيا، وهنالك مثلنا أكثر من خمسة مليون لاجئ عراقي، موزّعين على إمتداد بقاع البسيطة. بلى، لاتندهش، صحيح هنالك في العراق نفط وغاز وكبريت، سال من اجله لعاب الصواريخ والطائرات، ولكن في ذات الان، يموت ابناؤه في منافي البلدان الاخرى، في الاقبية الرطبة وفي الازقة والمستشفيات، كما حصل معك، فهو يحصل الان، أولست المتنبّئ بهذا المصير، بقولك:
ما مرّ عامٌ والعراق ليس فيه جوع!؟
وهؤلاء الطلبة الذين كانوا يسألون غيلان عنك، كانوا يعتقدون بأنّ (بويب) نهرا ً عظيما ً، كما صنعته انت في اللغة، وحين شاهدوه على حقيقته في الواقع، بكوا، لانّه كان فرعا دقيقا ً من ساقيةٍ جافة، وقد ملأته الاعشاب والادغال. فهل كنت تتوقع من حكومةٍ ما في العراق، ان تهتم بأمر نهرك الخالد (بويب)، وان تحرص على تدفق المياه فيه، حتى وإن كان السبب سياحيّا ً، إن استبعدنا الثقافي منه؟
كان القائد (الضروري جدا ً) مفتونا ً بتماثيله وحسب، وكان يغيضه وقوفك الحالم على كورنيش البصرة، لذا رصف الى جواره عشرات النصب والتماثيل له، كمحاولة معماريّة وفنيّة وحشيّة، للتخلص من حضورك، ولولا يقينه من رسوخك في وجدان الناس وضمائرهم، لألقى بك في مقبرة ٍ جماعيّة ٍ، مع بعض الأحياء تحت الأرض. كما كان يغيض القائد الضروري جدا ً في بغداد، شموخ نصب الحريّة للنحّات جواد سليم أيضا ً، ولذات الاسباب، عمد مقابله تماما ً، إلى إنشاء سوق دائرية وأنفاق، وارتفاعات غير محسوبة، وغير جائزة، الى جوار عمل فني جمالي، غرضه فقط، إلغاء حضور الآخرين، حتى وإن كانوا فنانين أو شعراء!
عزيزي الكبير السيّاب:
رحل من بعدك كثيرون.
رحل الصافي النجفي مثلا ً، بعد أكثر من ثلاثين عاما ً من الاغتراب، كان يتمنّى فيها رؤية بغداد، وحين عاد اليها منتصف السبعينات، عن طريق بيروت، إندلعت حرب الطوائف هناك، اعني في لبنان، وأصابته شظيّة في عينيه، أفقدته البصر، فقال حال دخوله عاصمته بغداد:
يا عودة ً للدار ِ ما أقساها أسمع بغداد ولا أراها
ورحل كذلك الكاظمي عبد المحسن، وعبد الامير الحصيري وكزار حنتوش وجان دمّو وسركون بولص، ومن هم من في حوالي منتصف الثلاثين من العمر مثلك، الشاعر آدم حاتم (الذي دفنته البلديّة في صيدا، لغياب من يسأل عنه، وهنالك من سرق حقيبته الصغيرة الوحيدة، التي كانت تحوي كلّ ممتلكاته، وهي عبارة عن قصائد وحسب، أي لقد سرقت حياته مرّتين)، فأوصيك به، وبعقيل علي ورعد مشتّت وآخرين، هذا للعلم فقط، أمّا بلادك التي كنت تتغنّى حتى بظلامها، لاحتضانه لها، والتي كان اسمها بلاد مابين النهرين منذ ستة آلاف عام، فقد أصبح اسمها الان، بلاد مابين الطائفتين، وخوفي من ان تشمل هذه الجغرافيا لاحقا ً كلّ بلاد العرب.
امّا بخصوص تمثالك الحالم على ضفاف البصرة:
فثمّة ديوان اشعارك، موضوع برفق في أحد جيوب الجاكيت، وفي تلك النصوص بالذات يكمن سرّ عتابي المرّ هذا: إذ حرمتنا، كما حرمت كلّ أبناء العربيّة، أو الناطقين بالضاد، من فرصة إستخدام أهم عناصر الطبيعة في القصيدة، وإن تجرّأ أحد على استخدامها، ستكون أنت تهمته الكبرى، لأنّك قد استملكت وإلى الأبد، مثل هذه القوى أو المفردات، فأرجو أن تعيد لنا بعضها، وأعني منها مثلا ً بهذا الخصوص (المطر، السحر، النخيل، القمر، الشمس، الظلام، النهر، الخليج.... وسواها)، وكان الأجدى بك ان تكتب عن أسباب حرمانك وعللك الكثيرة، وليس عن الدفء والطبيعة والحياة والحب والنبل والانتماء والعشق، وفوق كل ما سلبته منّا، ودوّنته في ديوانك، تأتي لتقول بأنّك تحسد ذلك الديوان، لانّه سيتنقل بين الصبايا، وتضعنا مرّة ً اخرى، أمام صورة مختلفة، وطاقة تعبيريّة نادرة عن مفهوم الحرمان، وأعني بها قولك:
ياليتني أصبحت ديواني لأفرَّ من صدر ٍ الى ثان ِ
قد بتّ من حسد ٍ أقولُ لهُ ياليت من تهواك تهواني
فكيف استطعت ان تكتب هذا وغيره، وانت في لجّة اليأس؟ ألم تذكر مايشبه ذلك، في رسالة الى الشاعر السوري (علي احمد سعيد) الشهير بأدونيس عام 1964، إذ تقول فيها: (ان نفسي تتدفق بالشعر، لكنّه يتدفق من ينبوع ألم ٍ عظيم ٍ ويأس)؟
هل سيغيضك إن قلت لك: بأنّك كنت تعلم بمنجزك الشعري، وكنت تكتب بأسباب خلوده، أعني عبر تلك الطاقة العفويّة التي تستدرجنا بها كلّ مرّة، الى مساحة من التخييل، مسكونة بالطفولة والغابات والاقمار والنخيل والمطر والضوء، موثقا ً حضورك المختلف، وإن بدا ممتزجا ً كليّا ً بين ثنايا هذه المفردات أو وقائعها على الأرض، أليس كذلك؟
وأظنّك بعد كتابة كل قصيدة، كنت تحتفي بها مع نفسك، ومع الكلمات، بإعلان بهجة الكتابة الحديثة وقتئذ ٍ، أقول هذا لانّك لاتملك أصلا ً سوى المفردات، وسوى إمكانية إعادة خلقها، وفي غير ذلك فأنت معدم ومعلول وجائع، ويبقى سؤالي: كيف منحت تلك الكلمات مواصفات الكائنات الحيّة، وكيف توّجتها بالخلود، وكيف ذهبت بها الى مواطن خاصّة تعنيها، بكلّ تلك القدرة من التعبير والتأمّل، حتى بات من الصعوبة إقتحامها من بعدك، فأصبحت معها أمّة خالصة من الانتماء المطلق، والرسوخ الجمالي الخالص والخاص.
بصدد هذا الكلام، وبقصدك خلق اسطورة ً عربيّة للتأمّل، كي لايبدو سياقي هذا إتهاماً، أقصد سعيك المشروع لتخليد التفاصيل التي عنيت، وترسيخ حضورك معها، قولك هذا:
كم حياة سأحيا
ففي كلّ حفره
صرتُ مستقبلا ً
صرتُ بذره
صرتُ جيلا ً من الناس ِ
في كلّ قلب ٍ دمي
قطرة ٌ منه ُ
أو بعض قطر

اذن هذا هو السرّ، كنت تغوي المفردات بطاقة الساحر، وتوقعها في فخاخ شاعريّتك الخاصّة، تستميلها الى منجم الطاقة التأمّلية، في ينابيعها البعيدة، لتخرج بها من مجانيّة التداول، الى خلود المعنى.
هذا المسعى الجمالي النادر، كنت تعني به، على ما أظن، تأسيس ذاكرة شعريّة، تقاوم الموت والذبول والعوز والمرض، وتحاول أن تبيد اليأس والألم، بل تسعى لتجاهلها تماما ً. وهي مقاومة فلسفيّة أخلاقيّة تأمليّة بحتة.
وللإنصاف أقول لك، أستاذ بدر: بأنّك لم تكن تعني تخليد شعرك وحياتك وحسب، بل تمكّنت من خلق آليّات فنيّة وجماليّة، تتجاوز تحوّلاتها الابداعية على الدوام، وذلك بجعلك سبل هذا التحوّل، تبدو حياديّة ً تماما ً، في إنتمائها الى مخزونها الحياتي. أعني بذلك، لم تكن الموهبة فقط قادرة على فعل ذلك، بل خاصيّة حضورك بين الكلمات، وتماهيك المطلق معها برحلة النص، هو ما ألغى بينكما عاملي الزمان والمكان، والخيال والواقع، فأنتجتم تلك الحالة من التمازج، التي تتطوّر وتتجاوز حالات تجلّيها باستمرار، اثناء هذه العمليّة الحياديّة من الخلق، وتمكّنتم من إعلان تبنّيكم سلطة الضوء والاقمار والمطر، وكنت انت بدر شاكر السيّاب، الناطق الرسمي باسم هذه المليشيا الخالدة، مليشيا مقاومة اليأس والألم والموت، بإعلاء طاقة الطبيعة والحياة والانتماء والحلم.
هنيئا ً لك اعوامك الثمانية والثلاثين، بيفاعتك الثالثة والاربعين.
شكرا ً لك استاذي الكبير، وعذرا ً لمعنونتي رسالتي اليك، بعنوان بات ظاهرة ً، يخاطب بها الصحفيون قادتهم وقادة العالم، رغم عدم إمكانيّة تلقيهم الرد، عكس ما يحدث بيننا، في كلّ مرة ٍ أعود فيها لقراءة قصائدك.

مودّتي الراسخة
سمير