الحلقة الأولى

د. باسم عبود الياسري: في مثل هذه الأيام وفي 13 تموز عام 1995 رحل العلامة الدكتور علي الوردي المولود في بغداد عام 1913, تاركاً خلفه إرثاً مثيراً للجدل في حياته وبعد مماته. والوردي عالم اجتماع عراقي درس المجتمع العراقي بصدق وتوقف عند الشخصية العراقية وبين سبب تميزها, وله أراء ونظريات كانت موضع اهتمام العراقيين كافة قبولاً ورفضاً.
نزل الوردي بالباحث من برجه العاجي الى أرض الواقع, واقترب بلغته وطروحاته من العامة فكسب ودهم, وهو مفكر خالط الباعة ودرس أحوالهم, كتب أفكاره دون تردد ولا مجاملة, فكسب عداء أهل السياسة ورجال الدين, لكنه ربح عامة الناس لأنه احترمهم وعبر عما في نفوسهم خير تعبير, حتى صارت أقواله يتداولها البقال والحداد مثلما يدرسها ويتفحصها الباحثون.نظر فأصاب, وحلل فشخص, شغل وسائل الإعلام دون أن يكون هذا همه, وعاداه بعض زملائه دون قصد منه, فقد اختار منهجاً غير منهجهم المتعالي.
كان الوردي على الدوام أكثر الكتاب مبيعاً حتى أذكر أن أخي كان يحجز نسخته من المكتبة قبل صدور الكتاب, وكان الجمهور يلح عليه في زيادة نسخ طبعته لكنه كان يرفض ويتوقف عند عدد معين, ولايزال بعد 12 عاماً على رحيله هو الكاتب الأكثر مبيعاً, حتى أن دور النشر طمعت به فأعادت بعضها طباعة كتبه بعدة طبعات دون استئذان من ورثته.
كتب الدكتور الوردي عدداً من الكتب يكاد لايخلو بيت عراقي منها (وعاظ السلاطين, مهزلة العقل البشري, ) وقبل سنوات في أول وصولي الى قطر تعرفت الى مثقف قطري سألني عن الوردي فعجبت لأنه يعرفه, فقال بل أنا اعتبر نفسي تلميذاً له وأراني معظم كتبه وقد اقتناها عنده.
يتساءل بعض من درسوا الوردي هل أجاب على كل التساؤلات في كتبه, أرى أن المثقف ليس ملزماً بإيجاد الحلول فهو ليس سياسياً لكنه يثير القضية ويحرض على التفكير فيها. لقد شخص الوردي عوامل الخلل الذي اصاب المجتمع والثقافة و شخصية الفرد العراقي وتمزيق هويته وانكسار ذاته وعجزه عن استعادة وعيه وحريته وكرامته, وأثار من الموضوعات ما لم يثرها غيره, ولاشك أنه ـ رحمه الله ـ حين كتب ما كتب قد وضع أمامه ما سيتعرض له من نقد وتجريح وهجوم من كل الأطراف, لكنه حقق ما عجز عنه غيره من أن يكون مفكراً مؤثراً في قطاعات واسعة من الجمهور.
لم يكن الوردي طالباً تقليدياً لكنه كان مولعا منذ صباه بقراءة الكتب والمجلات وقد اضطر الى ترك المدرسة ليعمل في دكان والده, ثم للعمل صبياً عند عطار الحي, لكنه طرد من العمل لانه كان ينشغل بقراءة الكتب والمجلات ويترك الزبائن. ثم عاد الى المدرسة واكمل دراسته واصبح معلما.وفي عام 1932 تخلى عن زيه التقليدي ليلبس الملابس الافرنجية. وفي عام 1943 ارسلته الحكومة العراقية الى بيروت للدراسة في الجامعة الامريكية, ثم حصل فيما بعد على شهادة الماجستير والدكتوراه في علم الاجتماع من جامعة تكساس الاميركية. وبعد عودته الى العراق عمل في قسم الاجتماع في جامعة بغداد حتى تقاعده عام 197.. كتب الوردي بأسلوب جديد لم يألفه القارئ العراقي فكان أسلوبه نقدياً يحمل في طياته فكراً تنويرياً لا يخلو من أسلوب ساخر فتناول في كتابه quot;وعاظ السلاطينquot; الذي جعل علماء الدين يهجوه من على المنابر فقد تحدث عن طائفة منهم أولئك الذين يعتمدون على منطق الوعظ والارشاد الافلاطوني منطلقا من ان الطبيعة البشرية لا يمكن اصلاحها بالوعظ وحده, وان الوعاظ انفسهم لا يتبعون النصائح التي ينادون بها وهم يعيشون على موائد المترفين, لكنه اكد بانه لا ينتقد الدين نفسه وإنما وعاظه الذين يحاولون تغيير الطبيعة البشرية بالنصائح.
حاول الراحل الوردي أن يؤسس لمدرسة اجتماعية فكتب سلسلة من الكتب تحت عنوان لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث وصل الى ثمانية أجزاء قبل رحيله.لقد شخص الوردي أمراض المجتمع العراقي ونبه الى أن الفرد العراقي ظاهره متحضر لكن القيم القبلية والعشائرية هي الأكثر عمقاً وقد يأتي يوم تتفجر من جديد, لأن التراكمات التي خضع لها الفرد في ظل سلطات مستبدة ضاعفت هذه الضغوط وهو إنما يكظمها الى حين.