كتاب واحد يعيد للبشرية صوابها

بقلم حسين سرمك حسن

لا اعتقد أن هناك كتاباً للمحلل النفسي والمفكر،، إريك فروم،،،لا يحمل اهمية متميزة ولا يقدم إضافة استثنائية الي مجال التحليل النفسي للشخصية البشرية خاصة والي المعرفة الانسانية عموما، يتجلي ذلك علي سبيل المثال لا الحصر(في التحليل النفسي والدين و) اللغة المنسية: الاحلام والخرافات الأساطير و(رسالةفرويد) و(الهروب من الحرية) وغيرها وبين أيدينا الأن كتابه القيم: (تشريح التدميرية البشرية) الذي صدر عن وزارة الثقافة السورية بجزأين (مجموع صفحاتها 744صفحة) وترجمه ترجمة مقتدرة ودقيقة وبأسلوب جذاب الأستاذ (محمود منقذ الهاشمي) والذي يصفة العلامة (لويس ممفورد) بالقول :
(إذا كان بامكان كتاب واحد أن يعيد للبشرية صوابها، فانه يمكن لهذا الكتاب [ تشريح التدميرية البشرية ] أن يقوم بتلك المعجزة... إنه نتاج ذهني من أشد أذهان عصرنا توقداً وبصيرة ونضجاً).

و لعل من بين أهم العوامل التي تحدد أهمية هذا البحث الهائل الذي أمضي (فروم) في إعداده أكثر من ست سنوات متبحراً في بحار مئات المراجع والمصادر (أكثر من 400 مصدرا) ومتنقلاً من مختبر الي مختبر ومن مركز الي مركز أخر، هي ظاهرة غريبة وصادمة تتمثل في أن الأنسان المعاصر وكلما زاد تطوراً وتحضراً كلما أصبح أكثر وحشية وسادية. وها نحن ندخل الألفية الثالثة التي وصل فيها الأنسان ذري تطوره العلمي المدوخ ولكن لنصدم باقسي الممارسات الوحشية التي تعبر عن نزعة تدميرية فاقت حتي تدميرية الأنسان البدائي من ناحية والحيوان من ناحية أخري. وقد عبر عن الناحية الأولي (ج. سي. سمش) بقوله: (عندما أنظر الي التاريخ اكون متشائماً ــ ولكنني عندما أنظر الي ما قبل التاريخ فانني أكون متفائلاً)

أما الناحية الثانية فقد عبر عنها (ن. تنبرغن) بقوله: (إن الانسان هو من فصيلة أنواع كثيرة من الحيوانات في أنه يحارب نوعه من جهة ولكنه من جهة أخري من بين آلاف الأنواع التي تحارب، هو النوع الوحيد الذي يكون في القتال ممزقاً... فالأنسان هو النوع الحيواني الوحيد الذي هو قاتل جماعي، وهو الناشز الوحيد في مجتمعه).
ولكن (فروم) يري. بفعل بحثه الموسوعي الدقيق ــ أن رأي (تنبرغن) هذا ناقص ويتطلب توصيفاً اكثر تحديداً حيث يري أن دراسة الحيوانات تظهر أن الحيوانات اللبونه ولا سيما الرئيسات علي الرغم من أن لديها قدراً كبيراً من العدوان الدفاعي، فهي ليست قاتلة ولا معذبة (...) وأن درجة التدميرية تزداد مع النمو المتزايد للحضارة وليس العكس. وبالفعل فان صورة التدميرية الفطرية تلائم التاريخ أكثر بكثير مما تلائم ما قبل التاريخ وإن كان الأنسان لم يوهب إلا العدوان المتكيف بيولوجيا والذي يشترك فيه مع الأسلاف الحيوانيين فمن شأنه أن يكون كائنا مسالما نسبياً، واذا كان لقرود الشمبانزي علماء نفس، فمن العسير أن يري هؤلاء العلماء العدوان مشكلة مقلقة يجب ان يكتبوا كتباً حولها... مهما يكن، فالانسان يختلف عن الحيوان بأنه قاتل، والانسان هو الوحيد من فصيلة الرئيساة الذي يقتل ويعذب أعضاء نوعه من دون أي سبب سواء أكان بيولوجياً أو اقتصادياً rsquo; والذي (ويا للعجب) يشعر بالرضي من فعله ذلك).
وعلي هذا الوتر الحساس وتر العدوان اللاوظيفي واللا دفاعي ــ تضرب أنامل فروم البارعة، فيحدد هدف كتابه بالقول:
(إن هذا العدوان (الخبيث) غير المتكيف بيولوجياً وغير المبرمج وفقاً للنشؤ النوعي هو الذي يشكل المشكلة الحقيقية والخطر الحقيقي علي وجود الإنسان بوصفه نوعاً، والهدف الأكبر لهذا الكتاب هو تحليل طبيعة هذا العدوان التدميري وشروطه).
ووفق هذا الرأي الموضوعي المتفرد ذي المسحة التفاؤلية والذي يختلف كثيراً عن آراء (فرويد) في تأصل غريزة العدوان في النفس البشرية، فانه - أي فروم - يصر في الدراسة كلها... علي النظر الي المريض أو المنحرف نظرة إنسانية متعاطفه مع الإنسان، مهما كان عرقه أو قوميتيه،.. كان يصر علي أن الشخص النكروفيلي _ Necrophilic ويقصد به من يحمل عاطفة تدمير الحياة والأنجذاب الي كل ما هو ميت ومضمحل وميكانيكي صرف والشغف بتحويل كل ما هو حي الي شيء غير حي، وبالتدمير من اجل التدمير الشغف بتفكيك البني الحية، هو إنسان لم يفقد بشريته، وليس شيطاناً، وهو يعيش بيننا، وقد يكون في الكثيرين منا شيء من هذا النزوع) ويؤكد فروم أنه حتي أشد الناس شراً هو إنسان ويستدعي شفقتنا.. فإذا وجد هتلر في زمن ما فهناك الكثير من الهتالرة الذين لم تصبح لهم شهرة هتلر بسبب ظروفهم وامكاناتهم، ويصبحون خطرين جداً حين تحين الفرصة المناسبة) وكحل ناجع - كما يقول الهاشمي في مقدمته ــ فان (النظام الإجتماعي الذي نعيش فيه هو الذي يجب أن يتغير إذا كان لا بد للبشر من أن يتغيروا). ويضيف الهاشمي ملاحظة في غاية الأهمية تتعلق بموضوعية فروم في توصيفه للظواهر التدميرية بعيداً عن فعل العرق والدين والقومية فيقول: (إذا كان فروم في دراسته لهتلر قد تعرض للتدميرية عند الألمان النازيين، فإنه قد أشار الي وجود التدميرية غير المحدودة عند العبرانيين عندما استولوا علي أرض كنعان (فلسطين) وعند البابليين والرومان والأمريكان وهلم جرا. المهم في الدراسة هو الأنسان، وهي لا تقوم علي هدف إحصائي (...) ومن المؤكد أن هتلر كان كارهاً لليهود، ولكن ما يساوي ذلك صحة أن هتلر كان كارهاً للألمان، كان كارهاً للجنس البشري، وكارهاً للحياة نفسها).

نظرية فرويد
يقع هذا الكتاب/ المشروع الضخم، بجزأيه، في ثلاثة عشر فصلاً وخاتمة وملحق مهم يحاول فروم فيه طرح وجهة نظره الخاصة وتعديلاته الجذرية في نظرية (فرويد) في العدوانية والتدميرية حيث يتناول في الفصل الأول نظريات الغريزيين ــ الذين يرون أن العدوان غريزة ــ مثل فرويد وكونراد لورنتس ويوضح أوجه الشبه والأختلاف بينهما. (البيئويون والسلوكيون) هو موضوع الفصل الثاني، ثم يؤسس رابطاً جدلياً بين الغريزية والسلوكية في الفصل الثالث ويوضح أوجه تشابههما واختلافهما والخلفية السياسية والاجتماعية لكلتا النظريتين.
اما في الباب الثاني الذي يتضمن أربعة فصول فيقدم المؤلف (الدليل ضدالفرضية الغريزية) وفيه يري فروم أن هناك عدة أنواع من العدوان منها العدوان غير الخبيث ــ كالعدوان الدفاعي الذي قد يكون هجومياً أو فراراً والعدوان الوسيلي المتمثل في الحرب ــ والعدوان الخبيث الذي يميز فيه فروم بين السادية بمختلف أنواعها وبين (التدميرية) التي يطلق عليها مصطلح (النكروفيليا). والتمييز بين العدوان الدفاعي غير الخبيث والعدوان الخبيث يقتضي تمييزاً أخر أشد حساسية، هو التمييز بين (الغريزة) و(الطبع) أي بين الدوافع الراسخة في حاجات الأنسان الفيزيولوجية، وتلك العواطف الأنسانية بصورة خاصة والراسخة في طبعه. ومن ثم فأن السادية والنكروفيليا طبعان وليستا غريزتين.
في الباب الثالث الذي يتكون من الفصول الخمسة الأخيرة فيعالج فروم فيه أنواع العدوان والتدميرية وشروطهما الخاصة والأهم فيه هو رؤاه الخاصة حوله العدوان الخبيث والأنموذج السريري الذي يطرحه عن (هاينريش هملر) ــ رئيس شرطة الرايخ الـ s.s ــ كحالة سريرية من السادية الأدخارية ــ الشرجية، وفي المفهوم الجديد الذي يطرحه عن (النكروفيليا) التي يعرفها بانها (الإنجذاب العاطفي الي كل ما هو ميت، ومتفسخ ومتعفن وسقيم، إنها الشغف بتحويل ما هو حي الي شيء غير حي، وبالتدمير من أجل التدمير، والإهتمام الحصري بما هو ميكانيكي خالص، وهي الشغف بتفكيك كل البني الحية). ويقابلها البيوفيليا Biophilia (محبة الحياة). وتنمو النكروفيليا عندما يعاق نمو البيوفيليا، والإنسان موهوب بيولوجياً بالقدرة علي البيوفيليا، ولكنه من الوجهة السيكولوجية لديه الإستعداد للنكروفيليا بوصفها حلاً بديلاً. وبينما تهدف السادية الي المحافظة علي موضوعها فإن النكروفيليا تنزع الي القضاء علي موضوعها. ثم يصل الجهد الخلاق والعلمي والموسوعي لإريك فروم ذروته في الفصل الأخير حين يحلل شخصية (أودلف هتلر) كحالة نكروفيليا سريرية، وهذا الفصل يتطلب وقفة خاصة.