عالم شغل العامة والدارسين (الحلقة الثانية)
د. باسم عبود الياسري: كتب الدكتور الوردي آراءه بأسلوب لم يألفه القارئ العراقي والعربي، حتى أن بعض القراء يرونه يكرر مقولاته، أما أنا فأرى أنه يلجأ الى هذا الأسلوب لأنه يريد أن يحدث قارئه لا أن يكتب له فكان بحاجة الى هذه الإعادة والتكرار، كما أن مسؤولية وحراجة ما يكتب يفرض عليه بعض المناورة دون أن يفقد شجاعته في قول ما
الحلقة الأولى |
العراق اليوم يمر بوقت عصيب وبالغ التعقيد دون شك ويبدو أن هذا قدر العراقيين لأنه العراق، فلو حدث ما حدث من ويلات وحروب في أي بلد في العالم لما انشغل الناس به مثلما انشغلوا بالعراق، بل أنهم يفاجأون بالعراقي الذي ما زال رغم ما تعرض له من ظروف يشعر باعتداد في نفسه قد لا تجده عند غيره، وهو ما يجعله غير مرغوب به أحياناً وإن كان يلقى الاحترام والتقدير، وهذا ما يلمسه العراقي في غربته. مثل هذا الوضع يجعلنا نتذكر الدكتور علي الوردي ونردد لقد صدق الرجل في تحليلاته، فما هي رؤاه التي يتداولها الناس، حتى أن بعضهم لم يقرأه لكنه يحيلك إليه حين يتحتدم النقاش.
أثار الوردي ثلاث نقاط هامة ومترابطة مع بعضها وظل يدرسها في كتبه من عدة أوجه وهو ما يحعل البعض يتهمه بالتكرار، وليس سراً أن نذكر تأثره بابن خلدون فقد درسه واستوعبه وأسس لنفسه نظرياته الخاصة، فتناول الوردي الصراع بين البداوة والحضارة، والتي طرحها في كتابه quot; دراسة في طبيعة المجتمع العراقيquot;.
منذ أن ألقى الكتور الوردي محاضرته الشهيرة في بغداد عام 195. حول شخصية الفرد العراقي، انتبه الجمهور الى هذا الباحث الذي عاد من أمريكا بعد أن تخصص هناك، لقد تحدث بطريقة مختلفة عمن سبقه فجذب الانتباه إليه، وحركت محاضرته تلك رتابة التفكير النمطي الذي كان سائداً من ركوده، حين قال بـquot;ازدواج الشخصية العراقيةquot;، وردها الى المجتمع، فالشخصية نتاج القيم التي يتعامل بها المجتمع ولما كان العراق تتنازعه قيم البداوة من جهة والحضارة من جهة أخرى كان لابد أن تحدث هذه الازدواجية في تركيبته الشخصية فهذا السلوك اجتماعي لانفسي ـ كما يرى الوردي رحمه الله ـ فأشار الى ان الفرد العراقي من اكثر الناس هياما بالمثل العليا ولكنه في الوقت نفسه، من اكثر الناس انحرافا عنها في واقعه الاجتماعي، ويمكن تطبيقها على الشخصية العربية الى حد ما.
يعزو الوردي هذا السلوك الذي يراه في كل المجتمع بغض النظر عن طبيعة مهنهم أو ثقافتهم الى دراسته للتاريخ العربي الاسلامي في العراق، الذي شهد المدارس الكلامية المتعددة والمذاهب والفرق، فضلاً عن الأديان والحضارات القديمة التي كانت سائدة فيه قبل الاسلام. أثر كل هذا العمق الحضاري بالعراقي فتجده محباً للجدل حيث نشأ في بيئة متنوعة الثقافات، التي انتجت كل تلك المدارس الكلامية، فهذه المدارس طبعت التفكير بالصفة المثالية quot;الحلميةquot; لأنها جدلية وغير واقعية، ففي الوقت الذي كانت مدارس الكلام والتنظير تزدهر في العراق في العصر العباسي ويتجادل أصحابها بالادلة العقلية والنقلية بعيدين عن الواقع، كانت الفرق والطوائف المختلفة تتقاتل فيما بينها، ويمكن ملاحظة ذلك الآن حيث يتناقش السياسيون على شاشات التلفزيون ويحضرون جلسات مجلس النواب ونراهم يتضاحكون، وفي الصباح نجد الجثث ملقاة في الطرقات.هذا الأمر ليس وليد اليوم فالعراق هو مركز الصراع منذ حكم الامويين والعباسيين وكذلك العثمانيين، وشكلت بغداد كونها عاصمة للخلافة مكاناً لظهور حلقات الجدل والمناقشة، وكانت مطمعاً للآخرين كما لم تشهده مدينة أخرى.
ولكن كيف يتعامل الناس بهذه الازدواجية ولماذا لا يدركونها ؟ نقول إذا كان يفترض بالثقافة أنها تصقل وتهذب النفوس، فإنها للأسف ستأخذ منحى آخر هنا حيث تتضح الازدواجية عند المتعلمين بشكل أكبر ـ كما يرى الوردي ـ فكثيرا منهم حفظ الافكار والمبادئ الحديثة وتحمس لها ودافع عنها وانتقد كل من يخالفها، لكنه في ذات الوقت، لا يطبقها، بل يخالفها كل يوم في حياته العملية، بوعي أو دون وعي، ولم تنفع معه قيمه التي حفظها سواء من المجتمع أو من الدين، لتعارضها مع رغباته الشخصية التي لا تكبحها النصائح والمثل العليا التي يسمعها من الوعاظ الذين لا يلتزم بعضهم بها.
التعليقات