عبد الله كرمون من باريس: أراد المشرفون على مجلة لومغازين ليتيرير أن يتناولَ عددُه المزدوج لهذا الصيف (يوليو/تموزـ أغسطس/آب) في ملفه أمر quot;البلاهةquot; على أنها اختلاق حديث وذلك في مستويات متعددة تبعا لتوجهات مقالاته واختصاصات أصحابها. بدءا من تمظهراتها من خلال الهيأة، القول، الفعل وغيرها.
ماذا يُقصد إذن بكلمة quot;becirc;tisequot; الفرنسية؟
الواقع أنها تعني عدة مدلولات وذلك حسب سياق تداولها وكذا كَيفِ بنائها في جملة أو في تعبير لغوي معروف، فهي تعني بالأساس نوعا من الغباء والبله ووهن العقل وبلادته بل حتى ضيق أفقه، مثلما تدل أيضا على فعل شائن وغير لائق يأتيه، خاصة، امرؤ غير ذي كياسة.
أما من خلال الملف فهذه اللفظة أُريد لها أن تصير بين محلين، واحدٌ لصيق بشأن بلادة الذهن وثانيهما متعلق بفيض الذكاء. لذلك شئتُ أن أترجم اللفظ الفرنسي هنا بالذات بالبلاهة، وذلك لسببين أولهما أمر عسر ترجمة الكلمة بالدقة اللازمة دون مغامرة غر! ثاني الأمرين، كون معنى هذه اللفظة التي اخترت، ليس يرجح لا كفة الذكاء ولا كفة الغباء. البلاهة قد تكون قرينة البله ما ليس ينقذ المرء من السقوط في موت العقل وقد تكون بحق هي خصلة من عرف فرط الذكاء وراوغ المحيطين به وخدعهم كلهم بكونه ليس يميز بين الديك والحمار!
هل هي إذن quot;وحش معاصرquot;، مثلما سماها برنار فوكونيي، الذي سبق له أن نشر نفسه كتاب quot;quot;البلاهةquot; في حديقتهاquot;. فهي كما يقول ليست تعارض الذكاء بل الأدهى من ذلك فهي توظفه. إنها الشبح الذي خيم على الوعي المعاصر إذن، مثلما كتب. فهو الذي يرى أن هذه الكلمة قد تم ابتلاؤها كثيرا في القرون الوسطى كي تغيب بعد ذلك في العصر الكلاسيكي لتظهر من جديد لدى ديدرو إبان فترة الأنوار خلال القرن الثامن عشرة.
يواصل كي يؤكد صدق رأيه على أن البلاهة، هي صراحة، وحشُ العصر. ليس يقدرُ أحدٌ أن يستوعبها في إطار أو أن ينظّر حول كل شرها الكبير. فشل الكل في التحكم فيها، وخلاف الجميع اعترف روبير موزيل، بكثير من الشفافية، بعجزه عن احتوائها في معنى ما. لقد كتب: quot;أجهل بحق ما هي فعلا. لم أكتشف بعد نظرية البلاهة التي يمكنني بواسطتها أن أنقذ العالم!quot;
أما لدى فلوبير، رامبو وبودلير فالأبله بل الغبي هو البورجوازي. ولكنها أيضا هي سمة quot;الشعبquot; الذي يتفوه بأي شيء متى طالبناه برأيٍ في شأن ما، إذ فاضت الآن إمكانيات التعبير حسب الكاتب.
لم ينتبه فلوبير، بل كان وفيا لرؤيته، إلى ما قاله لما وصف كومونة باريس على أنها آخر تمظهرات القرون الوسطى، إذ اعتبرها على أنها حصيلة بلاهة أو بلادة كبرى! لكن في كثير من الخطابات الأخرى فالأبله هو من لا يؤمن بالله وفي أخرى هو من يؤمن به!
إن البلاهة إذن موضوع أدبي شاسع كما يذكر بذلك فوكونيي نفسه: آخيل بذاته أبله غير أنه عظيم لدى سورة الغضب.
لقد خلق الربُّ الناسَ على صورته، سواء كانوا حكماء أو مجانين ما همَّ. لقد كتب أننا يمكننا أن نتعرف في شخص المجنون على حكيم. ألم يكتب إيرازم في القرن السادس عشرة quot;مديح الجنونquot;؟ لكن أليس يصح أن يطلق على البلاهة: quot;دوار ميتافيزيقيquot;!
لكن لاغوشفوكو وضح: quot; أننا بدأنا ندرك ما هي البلاهة، إنها ليست دوما ضد الذكاء. فالبلاهة لا يجب خلطها مع غياب القدرة على الإدراكquot;.
ألم يكتب ميلان كونديرا في quot;فن الروايةquot; quot;أن بلاهة الناس تكمن في كونهم يودون أن يوفروا إجابة لكل الأسئلةquot;.
على كل حال لسنا نتوقف كثيرا عند فكرة أن يكون دون كيشوط أبلهًا بل مجنونا يغادر بيته كي يحقق انتصارات ما. لكن إذا كانت البلاهة أمرا لغويا فإن اللغة وحدها هي التي قد تتكلف بالتغلب عليها كما يقول.
الخطأ الأكبر هو أن نخلط البلاهة مع حال عدم الذكاء، كما وضح ذلك بيليندا كانون أستاذ الأدب المقارن بمدينة كان. فحتى توماس برنارد نفسه تحدث في كتابه المسمى quot;أشجارٌ يلزمُ قطعهاquot; عن استيائه من أناس أغبياء لم يكن عليه أن يقبل دعوتهم إياه ليشاركهم أمسياتهم. دون أن أشير في هذا الصدد إلى منزلقات برنارد توماس حول بلده النمسا الذي لم يفق حينها بعد من معضلات التاريخ التي قد مسته يومئذ.
حتى باسكال نفسه طرح نفس الإشكال الذي هب لمعالجته من بعده آخرون. كتب: quot;من أين يتأتى أن يزعجنا مرأى رجل أعرج وليس يزعجنا تبين عقل quot;أعرجquot; خرق. ذلك أن الأعرج يعترف أننا نمشي بشكل عادي، غير أن عقلا خرقا يرى بأننا نحن هم الأغبياء، فمن دون هذا لكنا من يشفق وليس يغضب عليهمquot;.
يقول الكاتب حقيقة أن البلاهة بل البلادة ترغب في الغالب أن تجعلنا موضع تساؤل وتريد بالتالي أن تقنعنا بتفاهاتها. غير أنه علينا أن نتجنب، مثلما شدد بيليندا كانون على ذلك، تكرار تنهيدة القديس بوليكارب المتوفي شهيدا سنة 197: quot;يا إلهي، أي زمن هذا الذي أوجدتني فيه!؟quot;
وقد يكون الرجل الذي جَابَهَ لأول مرة وبجدارة شأن البلاهة هو ديكارت. ألم يضع منهجه في دحض كل الأفكار المسبقة ونسف كل البنيات الذهنية المترسخة منذ وقت سالف من أجل التحرر التام من نير سيطرتها على كل ما قد ينتجه العقل بعد ذلك؟
تعقيدات العالم المعاصر، كما جاء في مختتم مقالته، جدير بها أن تجعلنا لا ننجو من مس البلاهة، ما يُلزمنا أن نسترق السمع برهافة بالغة لندرك في الطبيعة أصواتها تلك.
أما ميشال دولون الذي يرجع له الفضل في إعادة نشر quot;حفيد راموquot; كتاب ديدرو مؤخرا، فقد لاحظ في quot;محاكمة quot;البلاهةquot; في عصر العقلquot; أننا نولد بُلهاء ونصير أغبياء في سعيه لوضع بعض التحديدات بشأن معنى نقصان التوظيف الكامل والتام للقدرات الذهنية سواء بسبب عدم اكتمال تكوينها أو بسبب تخلفه جراء خلل تربوي بالخصوص. في كتب ديدرو بالتحديد نجد في الغالب نموذج الأبله أو الشخص غير المكترث بقواعد اللياقة في الحديث ولا في التصرف سلوكا ومأكلا وملبسا، مثل رامو الذي كان مع ذلك مثالا لذكاء منقطع ليست تُرى علاماته على مظهره.
جان بول ريشتر الألماني ذهب أكثر من ذلك إلى وضع كتاب في quot;مديح البلاهةquot;، شدد في موضع منه على مبدأ مهم لدى البلاهة جاء على لسان هذه الأخيرة نفسها كدعوة إلى مريديها، كما أوردها فيليب بارتولي، قالت: quot;أنتم الذين تحبونني كلكم، سواء في تمكني من أنفسكم أو سواء تعشقونني لدى الآخرين، سرا كان ذلك أم علانية، عن قناعة أو فقط للتظاهر بذلك. ضاعفوا قواكم ضد أعدائي من أجل أن يمتد ملكي (...) اقرءوا كي لا تفكروا، اكتبوا كي تمنعوا (الآخرين) من التفكير...quot;
دون أن يتحدث أصحاب المقالات عن نفس الشيء ودون أن يتضح بالتأكيد هل نقصد الغباء أم تصنّعه قاربت الموضوعات التي لم نذكرها جميعها موضوعا من المجدي تناوله على صعيد أوسع وأجمل، على جمال الرسومات التي رافقت الملف بذكائها واختزانها بفن آخر من غير القول ذكاء البلاهة وبلاهة الذكاء!
على أن فلوبير كعدو لبنت الذهن هذه صرخ في وجه القرن الذي انتمى إليه في عبارته التي جاءت لدى بيير مارك دو بيازي قائلا: quot;يصعد لي الخراء إلى فمي... أود أن أصنع منه عجينة ألطخ بها القرن التاسع عشرة.quot;