أمبرتو إيكو
ترجمة: حسن الطالب

quot;تكوينquot; اثنان، عشرة، أحد عشر. لقصتنا هذه مزية كونها لها بداية إذا ما قيست بعدد لا يُحصى من القصص الأخرى. في البداية يتكلم الله وهو يخلق الأرض والسماء فيبدأ كلامه بالقول: ldquo;ليكن نورrdquo;. وبعد هذا القول الإلهي فقط أمكن للنور أن يكون (سفر التكوين: 1، 3-4). تَمَّ الخلق عبر فعل كلامي، ولم يكن يتطلب ذلك سوى تسمية الأشياء التي يخلقها الله تباعا. هكذا أضفى الله على خلقه وضعا أنطولوجيا، ثم ldquo;سمى الله النور quot;نهاراquot; والظلام quot;ليلاquot; [...] وسمى الله الْجَلَدَ سماءً quot; (1).
وفي الإصحاح 2، الآية 16-17 من سفر التكوين يتحدث الرب للمرة الأولى إلى الإنسان، واضعا تحت تصرفه كل ملذات الجنة الأرضية، آمرًا إياه بعدم الاقتراب من ثمرة شجرة الخير والشر. وثمة شك ما يزال يخيّم على معرفة طبيعة اللغة التي كلّم بها الله آدم. فقسم كبير من الروايات يرى أنها لغة وحي وإلهام باطن يتحدث بها الله -كما في مواضع أخرى من الإنجيل- بواسطة ظواهر جوية وومضات من البرق والرعد. لكن إن كنا مُلزمين بفهم الأمور على هذا النحو فثمة تبرز أول إمكانية للغة تُفهم من خلال الذي يُسمعها عن طريق ملكة أو نعمة خاصة مع بقائها لغة غير قابلة للترجمة إلى كلمات اللغات المعروفة.
حينذاك، وحينذاك فقط (2، 19) ldquo;جبل الرب من الأرض جميع حيوانات الأرض وجميع طير السماء ليرى ماذا يسميها آدم، فيحمل كل منها الاسم الذي يسميها بهrdquo;. إن تأويل هذا المقطع من الصعوبة بمكان.
وفي الواقع، إنه المقطع الذي طرحت فيه قضية (Nomothegrave;te (2) والتي تتقاسمها ديانات وأساطير أخرى؛ بمعنى أول واضع للغة، غير أن الأسس التي سمى بها آدم الحيوانات أسس غير واضحة. وفي كل الأحوال، فإن رواية (La Vulgate (3)التي تشكلت على أساسها الثقافة الأوروبية لم تقدم شيئا يُذكر لحل هذا الغموض، لأن الرواية تُواصل قائلة، على العكس من ذلك، أن آدم سمى الحيوانات المختلفة (Nominibus)، وبالتالي فترجمتها بأسمائها لا يحل المشكل: فهل يدل ذلك على أن آدم سمى الحيوانات بأسمائها الخاصة بها في ضوء قانون أو عرف فوق-لساني (Extralinguistique) أم من خلال الأسماء التي نُطلقها عليها الآن (على أساس العرف الإلهي؟) هل كل اسم سمي به آدم هو الاسم الذي كان ينبغي أن يختص به الحيوان بسبب طبيعته أم أنه الاسم الذي أقرّ (Nomothegrave;te) اعتباطيا، إضفاءه عليه، قمعا لهواه الخاص، عاملا بذلك على وضع عُرف معين؟
ولننتقل الآن إلى الآية: 2-3 من سفر التكوين؛ حيث يلتقي آدم، للمرة الأولى، بحواء. هنا يقول آدم: (وللمرة الأولى يُذكر كلام من كلمه): ldquo;هذه الآن عظم من عظامي ولحم من لحمي، وسأسميها (Virago) [هكذا تترجم (Vulgate) (Ishshagrave;)، مؤنث (Ish) quot;الرجلquot;]. وإذا أخذنا في الاعتبار أن آدم في سفر التكوين: 3-20 سمى زوجته حواء، التي تعني الحياة وأم الأحياء نجد أنفسنا أمام تسميتين ليستا فقط اعتباطيتين تماما، بل اسمان صحيحان.
في الإصحاح (11، 1) يُعيد سفر التكوين تناول المسألة اللسانية. فبعد الطوفان ldquo;كان في الأرض كلها لغة واحدة وكلمات متماثلة. بيد أن الكبرياء قاد الناس إلى الرغبة في مضارعة الرب، وإلى بناء برج يصلهم بأسباب السماء. ولكي ينزل بهم العقاب جزاء لهم على ادعائهم وجبروتهم، والحيلولة دون بناء الجدار جاء قضاء الرب: ldquo;فلننزل ولنبلبل هناك لغتهم حتى لا يفهم بعضهم لغة بعض [...] ولهذا سميت بابل لأن الرب (Jeacute;hovah (4) بلبل هناك لغة الناس جميعا، ومن هناك شتتهم الرب على وجه الأرض كلهاrdquo;.
وكون أن العديد من الكتاب العرب (انظر Borst، 1957-63، I، II، 9) يرون أن البلبلة وقعت لأسباب صدمية بمشاهدة انهيار البرج -المروع بالتأكيد- لا يُغير شيئا لا من هذه القصة ولا من قصص أساطير أخرى تقر، بطرائق مختلفة جزئيا، بوجود لغات مختلفة في العالم.
بيد أن قصتنا غير مكتلمة إذا رُويت على هذا النحو، فقد أغفلنا المقطع 10 من سفر التكوين الذي يتحدث عن انتشار أبناء نوح بعد حدث الطوفان والذي يقول عنه بخصوص ذرية يافث (Japhet): ldquo;هؤلاء هم أبناء يافث في أرضهم، كلٌّ بلغته، وأسرته، وأوطانهم الخاصة (10-5). وتُطرح القضية من جديد بنفس الكلمات تقريبا عند الحديث عن أبناء حام (Cham) (10-20) وأبناء سام (Sem) (10-31). فكيف ينبغي فهم هذه التعددية اللغوية قبل بابل؟
فبينما نجد سفر التكوين 11 دراميا وغنيا من حيث رموزه، وحجة ذلك تكمن في ثراء التصورات والتمثيلات التي أوحى بها البرج على مدى القرون، نجد أن تلميحات سفر التكوين 10 كلها، وبخلاف سفر التكوين 11، منحولة ومحرّفة عمدا، وتكشف بالتأكيد عن مسرحة ما.
لقد كان من الطبيعي، عند توارث الميراث [الثقافي] المسيحي أن ينصب التركيز على حدث البلبلة البابلية، وأن تعدد الألسن فُهم بوصفه نتيجة مأساوية لنقمة إلهية. كان سفر التكوين، في معظم الأحيان، مهملا أو تم اختصاره زمنا طويلا في حقبة رهبانية؛ إذ لم يكن الأمر يتعلق بتعدد اللغات، بل بتباين في اللهجات القبلية.
لكن إذا كان من السهل تأويل سفر التكوين 11 -حيث كانت هناك في البدء لغة واحدة ثم أصبحت 70 أو 72 لغة تبعا للميراث المسيحي الذي سوف يُشكل نقطة انطلاق لكل حُلُمٍ بـquot;إعادة بناءquot; اللغة الآدمية- فإن سفر التكوين، بالمقابل، يحتوي على افتراضات مذهلة. فلئن كانت اللغات قد تباينت بعد نوح فلماذا لم يكتب لها التباين، كذلك، من قبل؟ هنا تكمن إحدى الثغرات في أسطورة بابل. فإذا كانت اللغات لم تتباين بعد العقاب وإنما تباينت تبعا لتوجه طبيعي وعادي فلماذا، إذن، تم تأويل البلبلة اللغوية على أنها نقمة؟
بخصوص هذه القصة نجد بعضهم يُقارن بين سفري التكوين 10 و11 مع نتائج باهتة إلى حد ما، وذلك في ضوء العصور والمواقف اللاهوتية الفلسفية.
قبل أوروبا وبعدها
وثمة حكاية تفسر تعدد اللغات (Borst، 1957-63، I) تظهر في مختلف الأساطير وعلم الأنساب اللاهوتي. بيد أن معرفة وجود عدد من اللغات شيء، أما الاعتقاد بأن هذا الجرح ينبغي أن يندمل بإيجاد لغة متكاملة فشيء آخر تماما؛ ذلك أن البحث عن لغة متكاملة يتطلب من المرء اعتقاد أن لغته ناقصة. ولنقتصر فقط -كما سبق أن ارتأينا- على أوروبا، فقد عرف إغريق الحقبة الكلاسيكية شعوبا كانت تتكلم لغات مختلفة عن لغتهم، غير أنهم كانوا يسمون تلك الشعوب شعوبا بربرية (Bagrave;rbaroi)؛ أي كائنات تلغو بكلام غير مفهوم، وقد أبان الرواقيون في منظومتهم السيميائية، عن علم مكين مفاده أنه إذا كان صوت ما في اللغة الإغريقية يتطابق مع فكرة ما، فإن تلك الفكرة ذاتها كانت، أيضا، ماخرة بالتأكيد في ذهن البربري. غير أن هذا الأخير لا يعرف طبيعة العلاقة القائمة بين الصوت وفكرة الصوت الخاصة، وبناء عليه فإن ما يحكيه، من المنظور اللساني، غير ذات دلالة.
كان فلاسفة الإغريق يطابقون بين لغة العقل واللغة الإغريقية. هكذا وضع أرسطو لائحةً لمقولاته على أساس المقولات النحوية للغة الإغريقية، ليس لأن صنيعه ذاك يشكل تأكيدا واضحا لأسبقية اللغة الإغريقية، بل لأنه كان ثمة، فقط، نزوع نحو مطابقة الفكر لأداته في التعبير ممثلةً في اللغة؛ أي إن الفكر كان يعادل العقل (Logos) وكذلك الخطاب. ونحن لا نعرف الكثير عن خطابات البربر، وبالتالي فنحن لا نستطيع أن نفكر كيف كانوا يفكرون حتى وإن سلمنا، جدلا، أن المصريين القدماء، مثلا، كانوا قد بلوروا حكمة خاصة وقديمة جدًا، غير أننا كنا نعرفها من خلال وساطة اللغة الإغريقية.
وبفضل التوسع الذي عرفته الحضارة الإغريقية اتخذت اللغة الإغريقية، على العموم، وضعا آخر أكثر أهمية. فلئن وُجدت، فيما قبل، لغات إغريقية مختلفة بنفس القدر الذي وُجدت فيه نصوص متعددة (مليي Meillet، 1930: 100) خلال الحقبة التي تلت فتوحات الإسكندر الأكبر، فإن استعمال لغة إغريقية مشتركة تسمى (Koinegrave;) قد عرف انتشارا واسعا. ولم تكن هذه اللغة فقط اللغة التي كتبت بها أعمال (Polybe (5) و(Strabon (6) و(Plutarque (7) و(Aristote)، بل اللغة التي تناقلتها مدارس النحاة، وهي اللغة التي سوف تصبح تدريجيا اللغة الرسمية لمنطقة البحر الأبيض المتوسط والشرق، التي تأثرت بفتوحات الإسكندر ولتستمر طوال هيمنة الرومانيين باعتبارها لغة الثقافة، مثلما كانت اللغة التي يتكلمها أشراف روما وأرسطقراطيوها ومثقفوها، وكل الذين يهتمون بالعلاقات التجارية والديبلوماسية، وبالنقاشات العلمية والفلسفية في الأراضي المعمورة المعروفة، كما أنها اللغة التي دُوّنتْ بها النصوص الأولى للمسيحية (الأناجيل وترجمة الكتاب المقدس التي أعدها Les Septante (8)) في القرن III قبل الميلاد، ناهيك عن النقاشات اللاهوتية لآباء الكنيسة الأوائل.
إن حضارةً تنعم بلغة عبر وطنية لا تعاني من تعدد اللغات. ولقد طرحت الثقافة الإفريقية، من خلال Cratyle لأفلاطون المشكل اللساني نفسه الذي واجه قارئ روايات الكتاب المقدس: فهل اختار (Nomothegrave;te) الكلمات التي تسمي الأشياء تبعا لطبيعتها (Physis) -وهي أطروحة محاورات (Gratyle)- أم أنه سماها في ضوء قانون أو عُرف إنساني (Nomos) -وهي أطروحة (Hermogegrave;ne)- وقد انخرط سقراط في هذا الجدال بغموض واضح كما لو كان يتبنى تارة هذه الأطروحة، وتارة تلك. والواقع أن سقراط، بعد أن استعرض كل موقف على حدة مع إبداء كثير من السخرية مقدما اشتقاقات لم يكن هو نفسه (أو أفلاطون) يؤمن بها.
ويقدم سقراط أطروحته الشخصية التي ترى أن المعرفة، في نهاية الأمر، لا تتوقف على علاقتنا بالأسماء، بل بعلاقتنا مع الأشياء أو في أحسن الأحوال، بالأفكار. وسنرى أنه حتى بالنسبة للثقافات التي تجاهلت محاورات (Cratyle)، فإن كل نقاش حول طبيعة اللغة الكاملة قد سار على الطرق التي عبدها هذا الكتاب الأخير؛ غير أن النص الأفلاطوني يناقش شروط الكمال في اللغة دونما طرح لمشكل اللغة الكاملة. وبينما نجد أن لغة (Koinegrave;) ما تزال تُهيمن على حوض البحر الأبيض المتوسط نجد اللغة اللاتينية تفرض نفسها بوصفها لغة الإمبراطورية لتسعف كلغة كونية لجميع ربوع أوروبا التي وصلت إليها المجموعات الرومانية، كما ستصبح لغة الثقافة المسيحية في إمبراطورية الغرب، كما وإن ثقافة تستخدم لغة يتكلمها الجميع لا تتأثر بفوضى تعدد اللغات. كما أن العلماء سيتكلمون اللغة الإغريقية، غير أنه في باقي المعمور سوف يتوقف الحوار على بعض المترجمين إلى أن شرع البربر المنهزمين في تعلم اللغة اللاتينية.
ومع ذلك فإن الشك في اعتبار اللغتين اللاتينية والإغريقية ليستا اللغتين الوحيدتين اللتين يُمكن للمرء أن يعبر بهما عن كلية متناسقة للتجربة قد أخذ يشق طريقه للأذهان حوالي القرن II بعد الميلاد... وذلك عندما شرع العالم الإغريقي-الروماني في نشر رؤى غامضة منسوبة إلى مجوس فارس وإلى ألوهية مصرية (Theut (9)أو Thoth Hermegrave;s)، وإلى وسطاء الوحي المنحدرين من بلاد الكلدانيين،وكذا إلى الميراث الفيتاغوري والأورخي نفسه الذي ظهر على أرض الإغريق، إلا أن التقليد العقلاني الواسع قد ضيق عليه الخناق لفترة طويلة.
حينذاك بدأت مظاهر من الفتور تبرز بالقياس إلى الميراث العقلاني الكلاسيكي الذي أخذ في التنامي والمتشكل من جديد، كما وجدت الديانات التقليدية نفسها في أزمة خانقة. كانت الديانة الإمبراطورية ديانة محض شكلية ومجرد تعبير عن ولاء ما. وكان كل شعب يحتفظ بآلهته الخاصة المسموح بالتقرب إليها في البانتيون اللاتيني بغض النظر عن التناقضات والترادفات. ومن أجل تحديد هذا التسامح الذي كان يساوي بين جميع الديانات (كأي فلسفة أو أي معرفة) ليس ثمة أفضل من مصطلح التوفيقية (Syncreacute;tisme).
وظهر لدى الأرواح الأكثر حساسية حينئذ نوع من التدين المفرط، وبرز التنظير في روح كونية للعالم تخلد في النجوم والكواكب مثلما تخلد في العالم الأرضي وليست روحنا الفردية سوى جزء من أجزائها؛ ومادام أن الفلاسفة قد عجزوا عن إضفاء أية حقيقة يدعمها العقل حول المشكلات الأكثر أهمية فلم يتبق سوى البحث عن تجلّ (Reacute;veacute;lation) فيما وراء تلك الحقيقة، وهي التي تم التوصل إليها بفضل رؤية مباشرة أتاحتها الألوهية ذاتها.
في ظل هذا المناخ نشأت الفلسفة الفيتاغورية، وقدم مذهب فيتاغور نفسه، منذ البداية، بوصفه معرفة روحانية. ومارس الفيتاغوريون طقوس المسارّة (Rites drsquo;initiations). كما كانت معرفتهم بالقوانين الرياضية والموسيقية عبارة عن نتيجة لتجل إلهي أخذوه عن المصريين، خصوصا في الفترة التي نحن بصدد الحديث عنها والتي غدت فيها الثقافة المصرية التي تعرضت للتصدع بسبب منافسة اللغتين اللاتينية والإغريقية لها كلغة أشبه بـquot;هيروغليفquot;، غير مفهومة ولغزية، فليس ثمة ما هو أشهر من حكمة مكنونة. من المعروف أنها حكمة موجودة غير أنه لا سبيل إلى معرفتها، وبالتالي يُفترض أنها حكمة أعمق مما نتصور.
لكن إذا كانت الحكمة المذكورة موجودة وظلت مجهولة كذلك، فإن اللغة التي عُبر بها عن تلك الحكمة تظل بالمثل في حكم المجهول. وبالتالي فإنه -كما يقول ديوجين ليرس (Diogegrave;ne Laeuml;rce)(حياة الفلاسفة، I)-: quot;غالبا ما ادُّعي بان الفلسفة ظهرت في البلاد الأجنبية. ويقول أرسطو في كتابه (Livre de la Magie)، وسلون (Solon)(Livre de Filiation XXIII): إن المجوس في فارس، والكلدانيين في بابلون وفي أسييري (Assyrie) والفلاسفة المتصوفة في الهند، والناس الذين كان يُطلق عليهم الدرويديون (Druides) [الفلاسفة الغاليون]، أو (Les Somnotheacute;es) عند السَّلْتين (Les Celtes) والغلاتيين، كانوا هم من أبدعوا الفلسفةrdquo;. ولئن كان إغريقيو الحقبة الكلاسيكية يعرفون البربر بوصفهم أولئك الذين لا يستطيعون التلفظ ولو بكلمة فإن التمتمة المزعومة للبلاد الأجنبية هي التي سوف تُصبح بالضبط، اللغة المقدسة، تلك اللغة الطافحة بالوعود وبالوحي الإلهي الذي لم يُعبر عنه من قبل (انظر Festugiegrave;re) (1944-54، I).
لقد أعدنا، بإجمال، بناء هذا المناخ الثقافي لأنه سوف يكون له، على المدى الطويل، تأثير بالغ، ولم يحاول أحد في تلك الفترة إعادة بناء لغة كاملة. غير أن الطموح والحلم بها كان غامضا. وسنرى كيف أن هذه المقترحات سوف تعود للظهور بعد مرور اثني عشر قرنا تقريبا في الثقافة الأنسية وثقافة عصر النهضة (وما بعدهما)، عاملة بذلك على تغذية تيار تاريخي أساسي نسعى جاهدين لإعادة بنائه.
في غضون ذلك غذت المسيحية ديانة الدولة [بمعناها العام]. وتبنت هذه الديانة لغة الكنائس الشرقية واللغة اللاتينية في الغرب، بل إنها لم تتكلم لغةً أخرى غير اللاتينية.
ولئن استطاع القديس جيروم (Saint Jeacute;rocirc;me) في القرن IV ترجمة كتاب quot;العهد القديمquot; من اللغة العبرية، فإن معرفة تلك اللغة المقدسة قد عرف الفتور أكثر فأكثر. وهذا ما حدث مع اللغة الإغريقية كذلك. ولنفكر هنا بشأن القديس أوغسطين (Saint Augnstin) الذي كان يمتلك ثقافة واسعة جدا، وكان المثل الأبرز للفكر المسيحي عند انهيار الإمبراطورية. لقد كان أوغسطين شاهدا على وضعية لسانية متناقضة (انظر 1958، Marrou). وقد تأسس الفكر المسيحي على عهد قديم كُتب باللغة العبرية وعهد جديد كتب أساسا باللغة الإغريقية. وكان القديس أوغسطين يجهل اللغة العبرية، أما اللغة الإغريقية، فكان إلمامه بها أكثر غموضا. مشكلته، بوصفه مترجما للكتابات [الدينية] تكمن في فهم ما يريد النص الإلهي قوله في الحقيقة. ولم يكن يعرف عن النص الإلهي سوى ما تتيحه له الترجمات اللاتينية. وفكرة احتمال لجوئه إلى اللغة العبرية الأصلية راودته كثيرا، غير أنه كان ينفر منها لأنه كان لا يثق في اليهود الذين يُحتمل، في نظره، أنهم حرفوا المصادر لمحو الإحالات الدالة على المسيح الذي سوف يعود إلى الظهور، والأداة الوحيدة التي ينصح بها هي مقابلة الترجمات بغية التكهن بالعبرة الأحق من غيرها بالإيمان (وبذلك أصبح القديس أوغسطين أب الهيرمينوتيكا وليس الفيلولوجيا إطلاقا).
بمعنى من المعاني، كان القديس أوغسطين يفكر في لغة كاملة مشتركة بين جميع الشعوب؛ لغة لا تكون فيها الدلائل بمثابة كلمات بل الأشياء نفسها، بحيث لا يبدو العالم -كما سيقال فيما بعد- ككتاب مكتوب بيد الله. وبمعرفة هذه اللغة يستطيع الناس تأويل المقاطع المجازية للكتابات [الدينية]، حيث تعبر تلك اللغة عن نفسها عبر تسميتها لعناصر ديكور العالم (الخشب، الأحجار، الحيوانات) التي تكتسب دلالة رمزية، غير أنه لا سبيل إلى لغة العالم تلك التي أبدعها خالقها إلا عبر التأويل. وسوف تفسح هذه الفكرة، رأسا، المجال لنتاج سوف يتواصل على مدى القرون الوسطى في صورة الكتب المؤلفة على لسان الحيوان، والمنقوشات الحجرية، وكتب الموسوعات [...]. وسوف نعثر على هذا التقليد طوال هذا التاريخ عندما ستلجأ الثقافة الأوروبية إلى الكتابات الهيروغليفية المصرية، وكذا إلى الرموز الكتابية الغرائبية الأخرى، وذلك مع حضور فكرة أنه من غير الممكن التعبير عن الحقيقة إلا من خلال الرموز والشعارات والأختام. بيد أن القديس أوغسطين لا يبدي حنينا يُذكر إلى لغة مفتقدة يُمكن أو يُحتمل التحدث بها من جديد.
ففي نظره -كما في نظر الميراث الكنائسي عموما- كانت العبرية بالتأكيد قبل بلبلة الألسن هي اللغة الأساس [الأم] للإنسانية والتي حافظ عليها الشعب الذي أعقب حدث البلبلة اللسانية. بيد أن القديس أوغسطين لا يبدي أي شعور بالحاجة لاستعادة تلك اللغة. فهو يجد الراحة التامة في الكتابة بلغته اللاتينية التي غدت مذاك، لغة ثيولوجية وكنائسية. وبعد قرون لن يجد (Isidore De Seacute;ville) Etymologiarum, IX, 1)) أي عناء يذكر في الإقرار بألا وجود سوى لثلاث لغات مقدسة هي العبرية والإغريقيقة واللاتينية؛ لأن اللافتة المكتوبة أعلى الصليب كانت مكتوبة بثلاث لغات. وغدا من الصعوبة بمكان، منذئذ، إثبات اللغة التي تكلم بها الله [...] كان الميراث الكنائسي منشغلا بمشكل آخر: فالكتاب المقدس يقول إن الله أتى بجميع حيوانات الأرض وجميع طير السماء بين يدي آدم، ليسميها غير أنه لم يُسَمِّ الحيتان (إذ لم يكن من السهل بالضرورة وبيولوجيا سحبها من أغوار البحار والإتيان بها إلى جنة عدن). فهل سمَّى آدم الحيتان؟
قد تبدو لنا هذه المسألة ثانوية -وهي القضية التي نعثر على آخر إشارة لها في كتاب (Origins and progress of letters) لماسي (Massy) عام 1763 (انظر White، 1917، II، 196) عام 1763 (انظر، White، 1917، II، 196)- غير أن المسألة في علمنا لم تحل إلى حد الآن -على الرغم من أن القديس أوغسطين في كتابه (De Genesi ad litteram libri duodecim, XII, 20)- قد جازف بطرح فرضية أن أسماء الحيتان أُطلقت فيما بعد على أنواع الحيتان كلما تم اكتشاف أنواعها شيئا فشيئا.
وما بين انهيار الإمبراطورية ونهاية العصور الوسطى القديمة لم يعد لأوروبا من وجود: فثمة شعور مسبق لدى المرء بحدوث اضطراب داخلها. فقد أخذت لغات جديدة في التشكل ببطء. وقدّر الباحثون أن القرن الخامس هو القرن الذي لم يعد فيه الشعب يتحدث اللاتينية، بل أصبح يتحدث اللغة الغالية-الرومانية والإيطالية الرومانية، والإسبانية-الرومانية واللغة البلقانية-الرومانية. ودأب المثقفون يواصلون الكتابة بلغة لاتينية غدت، أكثر فأكثر، لغة هجينة وأصبحوا يسمعون من حولهم لهجات محلية تتقاطع عندها تذكرات (Remeacute;morations) اللغات المحلية السابقة على الحضارة الرومانية وجذور اشتقاقية جديدة أدخلها البربر.
إن الأصداء الأولى لظهور القضية المطروحة كان في القرن السابع؛ أي قبل أن تظهر الوثائق الأولى المكتوبة باللغة الرومانية والجرمانية بكثير. يتعلق الأمر بمحاولة قام بها النحويون الإيرلنديون وتقضي بتحديد مزايا اللغة العامية الغالية بالقياس إلى النحو اللاتيني. ففي كتاب بعنوان (Auraceipt na n-Eces) (مبادئ الشعراء)، بلغ الأمر إلى حد الحديث عن بنيات بناء برج بابل: ldquo;يؤكد البعض الآخر أنه كان في البرج ثمان مواد على التوالي وهي الطين والماء والصوف والدم والخشب والجبس والزفت والكتان [...] بمعنى ما يقابل الاسم والضمير والفعل والظرف واسم الفاعل والروابط وحرف الجر وحروف التعجبrdquo;. وإذا تغاضينا عن الفجوات الموجودة بين الأجزاء التسعة للمبنى-البرج، وبين الأجزاء الثمانية للخطاب، ندرك أن بنية اللغة شُبهت ببناء البرج؛ لأن الاعتقاد بات سائدا أن اللغة الغيلية (Gaeacute;lique) تشكل النموذج الأول والوحيد لتجاوز بلبلة الألسن... وبعد الشتات قام 72 حكيما من مدرسة فونيوس (Fenius) ببرمجة أول لغة مسننة، ويصف النص الكنسي لكتاب (Les preacute;ceptes) ldquo;فعل تأسيس اللغة [...] كعملية تقطيع مورست على اللغات الأخرى التي تعلمها 72 تابعا بعد الشتات [...] هنا تم إخضاع هذه اللغة لنظام بحيث يقتطع من كل لغة على حدة كل ما هو أحسن وأجمل وأجزل كيما يُقَاس على اللغة الإيرلندية [...] ولكل عنصر لا يوجد له اسم في اللغات الأخرى أشياء في اللغة الإيرلندية [...]rdquo;. (Poli، 1989: 187-189). إن هذه اللغة الأساسية وبالتالي فوق الطبيعية (Surnaturelle) تحافظ على علامات التشاكل والتناظر مع التناسق الطبيعي للخلق وتُشيد نوعا من الرابط الأيقوني بين الجنس النحوي وبين المرجع شريطة احترام الانتظام الدقيق للعناصر.
ما هي الدوافع التي دفعت إلى ظهور هذه الوثيقة حول شروط ومزايا لغة أفضل من كل اللغات المتعددة الموجودة من قبل في منعطف مرحلة حاسمة من هذه الألفية؟ إن فحصا لتاريخ الأيقونوغرافيا ليزيد من دهشتنا، إذ لم تعرف تمثيلات لبرج بابل قبل صورة (Biblia Cotton) (القرن الخامس، أو السادس) التي تلاها في الظهور مخطوط ربما يرقى إلى نهاية القرن العاشر. بعد ذلك يظهر نقش صغير في كاتدرائية دي صاليرن (de Salerne) الذي يعود تاريخها إلى القرن XI. بعد ذلك يظهر سيل من الأبراج (Minkowski، 1983). وقد أثار هذا السيل من الصور تأملات نظرية. وانطلاقا من هذه الفترة ستخضع حقيقة بلبلة الألسن إلى تفكير وتأمل لا بوصفها نموذجا لفعل كبريائي صبّ الله عليه جام غضبه، بل بوصفها أصلا لِجُرحٍ تاريخي (أو ما وراء-تاريخي) في حاجة للمعالجة والاندمال بشكل من الأشكال.
وكأننا في هذه القرون المسماة قرونا مظلمة نشهد تكرار كارثة برج بابل: فقد شرع البرابرة الغلاظ والفلاحون والحرفيون وquot;الأوروبيون الأميونquot; يتحدثون لغات عامية متعددة جديدة تخلو ثقافتها الرسمية من أي شيء يُذكر: فاللغات التي ما نزال نتحدث بها اليوم آخذة في النشوء، الشيء الذي يترتب عنه أن الوثائق الأولى لهذه اللغات لن تعرف النور إلا بعد مرور وقت طويل [...] وهكذا أصبحت الثقافة الأوروبية تتأمل بلبلة الألسن.
لكن لم يكن قبل التأمل ثقافة أوروبية، وبالتالي لم تكن ثمة وأوروبا.
ما هي أوروبا إذن؟ إنها قارة يصعب فصلها عن آسيا التي وجدت حتى قبل أن يطلق عليها الناس اسم آسيا [...]، ومع ذلك فللحديث عن أوروبا بالمعنى الذي يدركه بها العالم المعاصر كان ينبغي انتظار تفكك الإمبراطورية الرومانية وظهور المماليك الرومانية-البربرية. غير أن ذلك لم يكن كافيا. والشأن نفسه يسري على مشروع الوحدة الكارولانجية. فأين نَعثُر على تأريخ لتحديد بداية التاريخ الأوروبي؟
فبينما لا تتيح لنا الأحداث السياسية والعسكرية الكبرى التحديد المذكور، نجد، في المقابل، أن الأمر ممكن إذا ما حكَّمنا الأحداث اللسانية. فأمام الوحدة المتكتلة للإمبراطورية الرومانية (التي تهم أيضا آسيا وإفريقيا) تقدم أوروبا نفسها، في المقام الأول، كبابل للغات الجديدة ثم، بعد ذلك، كفسيفساء من الأمم.
يبدأ تاريخ أوروبا مع ظهور اللغات العامية. وقد ولدت الثقافة النقدية الأوروبية كردّ فعل على تواصل اقتحام تلك اللغات للفضاء الأوروبي. تلك الثقافة التي تصدت لمأساة تجزى الألسنيين وشرعت، بالتالي، في تأمل المصير الخاص لحضارتها المتعددة الألسن. وبما أنها تعاني من هذا الوضع فهي تحاول معالجته من خلال العودة إلى الماضي، ومحاولة إعادة اكتشاف اللغة التي تكلمها آدم، أحيانا، وأحيانا أخرى، تستشرف المستقبل ساعيةَ إلى بناء لغة للعقل تتصف بالكمال المفتقد في لغة آدم.

هوامش:

( ) اعتمدنا في ترجمة نصوص الكتاب المقدس على الترجمة المعتمدة الصادرة عن دار الكتاب المقدس، 1997. (المترجم).
(2) هو أحد أعضاء اللجنة التشريعية في أثينا القديمة. (المترجم).
(3) المقصود بها الترجمة اللاتينية للكتاب المقدس، المنسوبة إلى القديس حيروم والتي اعتمدها المجمع الديني المكون من ثلاثين عضوا. (المترجم).
(4) اسم الرب عند اليهود.
(5) مؤرخ إغريقي عاش 120-202 ق.م.
(6) جغرافي إغريقي اهتم بأصل الشعوب وهجراتها، وبنشوء الامبراطوريات، ودرس علاقة الإنسان بمحيطه الطبيعي.
(7) بيوغرافي وعالم أخلاق إغريقي، اهتم بالرياضيات والبلاغة في أثينا القديمة.
(8) أنجزت هذه الترجمة بالإسكندرية في القرن الثالث ق.م.
(9) إله القمر عند المصريين، ومخترع الكتابة واللغات

عن مجلة واتا للترجمة واللغات