امستردام ـ علي البزّاز، النهار

اكتفى الفنان العراقي باسمه المجرد من الكنية واللقب وصادر اسم الأب حين انتسب عائليا وفنيا الى الريشة، فاصبح إسمه هكذا: بشير، متقشفا وملحقا باللون. في المعرض الذي تقيمه حالياً غاليري Utrecht في امستردام يرى المشاهد الهولندي رموزاً تختلف عن رموزه التي نشأ عليها، مقتنعا بما يمليه عليه بشير من دلالات. ففي لوحة quot;الحياة المبهمةquot;، هناك مقبرة النجف العراقية التي تختلف في تصميمها عن مقابر اوروبية ألفها المشاهد في الغرب، اذ يتصورها مدينة بدلالات التصور الغربي إلا ان الفنان يقنعه بأنها مقبرة عراقية ويجرّه الى التصور العمراني العربي في بناء المقابر. المقبرة مضاءة حيث يعتقد الفنان أن الموت فعل ضوئي لا ينتهي، يستمد إشراقته من إنجاز الانسان في حياته. الى جوار المقبرة دهليز معتم تتدلى بيضة من سقفه ترمز إلى الحياة. يقول الفنان بشير: الحياة فعل داكن يُضاء بالموت، والويل لمن تتطابق حياته مع موته فيفقد تبجيل الاثنين. ما يقوم به الفن هو إعادة الحياة الى الحياةquot;. في الكتاب الذي اصدرته الغاليري بعنوان quot;بشيرquot; نتعرف الى شغف هذا الفنان بتكريم الظل والضوء وجعلهما محورين رئيسيين، ليس فقط من الناحية التقنية بل ومن الجانب الرمزي المعّبر عن افكاره في الوجود والانسان إنطلاقا من معنى الظل والعتمة المقابلين للحزن المنبعث من الحيز او الضوء المرادف للفرح. نجد اهتماما بالحالة النفسية للمنظور بقدر العناية الفيزيائية الدقيقة. ثمة في اللوحات تشريح دقيق لتفاصيل المكان، كأن الفنان يستنطقه او يقيم صداقة مفقودة على المستوى الحياتي. هذه العناية العائلية بالمكان تجد لها رجوعا في المنفى الذي احتوى بشير واحتواه الفنان في ما بعد من طريق العلاقة المصيرية مع الرسم. ذلك أنه أمضى اكثر من عشرين عاماً في ايطاليا ودرس في نهايات السبعينات في اكاديمية روما حيث عمل مساعدا لفنانين ايطاليين مشهورين، ثم عاد ليعيش في هولندا. الفنانون العراقيون، في غالبيتهم، يحملون ماضياً صحراويا ومكاناً مقاوماً كالصبار والعوسج، وهم كائنات شمسية بامتياز، حيث يحضر الضوء ومرادفاته بغزارة في اعمالهم، ملازما للجغرافيا، فتسطع دلالات المياه والاشجار كمفقود رؤيوي في الصحراء.
الفراغ عابر سبيل في اللوحات مطرود من الارتباط، يعاني اليتم، بينما المكان مأهول بساكنين مخلصين يعطفون عليه. بعض اللوحات تصور كنائس وصالات، مرهونة للمكان المغلق والضيق، إلا ان مهارة توزيع الظل والضوء تشي بتحيّز بصري للمساحة وبحبوحة للنظر، محاكاة للصحراء في امتدادها اللانهائي موصولة بفكرة المكان المنفي. يقول جاك ديريدا: quot;للنور تحيّز في المكان وارتباط قوي بالنهار حتى اننا لا نستطيع الفصل بين مصادفة اقتران الشمس بالتقييد الطوبوغرافيquot;. مهما تكن للمكان جغرافيا اوروبية غير انه في اللوحات على علاقة بالصحراء، ولذا هو مؤثث بإنسانية انتقاما من الخلاء والوحشة، وهائل المساحة تقليداً لها. الكرسي الفارغ يتكرر باستمرار، يستدعي المشاهد ليجلس عليه ويخلق الحميمية بينهما، وبفراغه يبتعد عن الإيحاء بالمنافسة مع الزائر ويمنحه فرصة التفكير لماذا هو خالٍ. البطانية الزرقاء المدعوكة والمنتبهة جيدا إلى طياتها، كأنها تشير إلى تجفيف همة السرير باستقبال نوم آخر، ويبدو ان الكوابيس عكّرت حماسة النائم بترتيبها، يقول الفنان: quot;الازرق هو الهبة الالهية الوحيدة سواء أكان سماء، بحرا ام شرشفاquot;. ينفي الفنان صفة الواقعية عنه وquot;ربما يعتقد البعض نتيجة لدقة التشريح في لوحاتي اني فنان واقعي وانا لست كذلك. اركز على الرمز والدلالة المشغولين بحرفية، دقتي المفرطة تفوق احيانا المكان الواقعيquot;، واحاول ان اكون سليلا للفن منذ سومر، والذي لم تتكرر عظمته رغم المحاولات الراهنة المبذولةquot;. المكان يرتبط بالماضي، بينما الزمان يتصل بالحاضر، عدا زمان الذكريات. فعندما يحضر المكان في اللوحة يأتي حينئذ بشخص الماضي. ماضي المكان يكون حاضرا في لوحات الفنانين المنفيين، ولذا السلالم والمقبرة والبلاط الارضي يجلبها الفنان من مدينته، وبالتأكيد تغيّرت هذه التضاريس المستعادة، لكن بشير يلجأ لاستحضارها الى صور فوتوغرافية عائلية او شخصية. الصورة هي الماضي. رموزه ودلالاته تجد سلالة لها في لوحات الفنان ماغريت الذي صرح يوما ان ما يرسمه هو التجريد بعينه: الغليون الشائع في لوحات ماغريت لا يمكن استخدامه للتدخين على حد تعبير الفنان، فهو إذاً تجريدي. تزدان اللوحات بالسلالم ايضا، وهذه ترتبط بذكريات في حياة الفنان او بذكريات من ارتبط بهم. طول النفي لم يصحّر رموزه العراقية المحلية، فهو يرسمها بدقة كما شاهدها لآخر مرة، وليس ضرورياً ان تكون هذ السلالم صعودا فهي في احيان كثيرة نزولا بحسب الرمز المعبر عنه وتتزامن مع دهاليز لها شكل القوس التي يُعتقد انها سومرية لان حضارة وادي الرافدين طينية والصلصال يسمح بالتكوّر مستوحيا شكل سعفة النخلة التي جاءت القوس منها. في لوحة quot;الهرب إلى الظلماتquot; تزدحم غير دلالة لتشكل البناء الفني: إبريق الماء الذي يصر الفنان على انه للوضوء ويراه الهولندي لري الازهار، سلّم الى الاعلى له ذكرى اجتماعية مؤلمة، مرورا بغصن التفاح عبر النافذة ولوحة داخلية مكسورة الإطار تحمل معنى الهرب ضمن لوحة خارجية. هناك تصميم واع على إشاعة روحانية المكان وخصوصاً في السلالم. تقيم اللوحات حلفا مرسوما مع الشعر يتعزز بالكشف الباطني عن علاقة الضوء بالظل، في صورة تكافلية، يعين احدهما الاخر على إشاعة الفكرة التي تصطحب المكان وتشيّد له سريرا للهدوء والتأمل.
اشتهرت هولندا برسم البورتريه وتحديدا الجماعي، وجرت العادة بأن تكلف مؤسسات بعض الفنانين لرسم المنتسبين اليها، كما لوحة رامبرانت quot;الحارس الليليquot;، وعلى الرغم من ممارسة بشير فن البورتريه في ايطاليا مستفيداً من دقته وتفاصيله لإنتاج بورتريه المكان، إلاّ أنه في لوحة البورتريه الجماعي التي تحمل اسم quot;لعبة الخليقةquot; (14 شخصا يديرون أعمال جمعية خيرية) يخضع الاسلوب الهولندي لفرشاته وافكاره. فالخلفية تصور بيوتا من الريف العراقي والارض موشاة بالطابوق الذي يتكرر دائما في لوحاته من جدران مدينته. واللافت في هذه اللوحة، صورة امرأة مشغولة على فكرة quot;الموناليزاquot; ولكن بطريقة مختلفة. تستمر المرأة بالنظر الى المتفرج اينما وقف، وتتابع الزوار حتى لو كانوا حشودا. هذه اللوحة (بورتريه جماعي) ليست في منأى عن حرفية الفنان، الاشخاص يتحلقون حول طاولة تشبه مائدة quot;العشاء الاخيرquot;، وملابسهم زُيِّنت بأسلوب يسمح للضوء بأن يدخل من زاوية ويخرج من اخرى، فهو ينسق جلوس الشخصيات، وما الطاولة إلا حيلة مكانية. يقول الناقد الهولندي خيرت لاودنخا: quot;بشير، سيد الظل والضوءquot;. يحرص الهولنديون على اقتناء لوحات الفنان مجتهدين بحل رموزه المختلفة عن الدلالات البيئة التي ألفوها، إستعانة بالتصور الروحي الشرقي وبعيدا من التصادم، ولا سيما تلك الرموز التي لا تمثل مكائد صيد. ها هي الفرشاة تؤاخي المكان المنفي منتسبا إلى عائلة الضوء.