quot; سالومي quot; (178 x 46 سم)
زيت على القماش 1909
حسين السكاف:
إن نجحت سالومي ونالت مرادها في تقبيل شفتي القديس يوحنا المعمدان الباردتين، بعد أن قبِلتْ المساومة في تقديم رقصتها بجسد عاري أمام الملك، زوج والدتها، مقابل ذلك الرأس الذي رفض تقبيلها حين كانت الحياة تنبض بشرايينه، فهي بكل تأكيد لم تنجح في إخفاء فضيحتها وشبقها الوحشي الذي طلب رأس القديس حتى وإن كان دون روح... ففي كل عصر نجد هذه القصة الدامية وقد خرجت للناس بشكل أو بآخر صارخة بالفضيحة... فبعد الكتب السماوية التي تداولت القصة المأساوية ليوحنا المعمدان وسالومي... يصور الفنان الفرنسي غوستاف مورو Gustave Moreau (1826-1898) سالومي برقصتها الفضائحية عام 1865 في لوحته الشهيرة quot; رقصة سالومي quot;، ليأتي من بعدة الكاتب الإنكليزي أوسكار وايلد ويكتب مسرحيته الشهيرة عنها، ثم يستلهم بعد ذلك عبقري الموسيقى الألماني ريتشارد شتراوس من تلك المسرحية شبق سالومي، وليس دم الضحية ومأساته، لتكون أوبرا quot; سالومي quot; خالدة على مر العصور. ومن ثم يصور رائد quot; حركة الانفصال الفنية quot; غوستاف كليمت quot; Gustav Klimt قصة سالومي بأسلوبه الاحتفالي التعبيري المميز.
ما تصوره لوحة كليمت quot; سالومي quot; (178 x 46 سم) زيت على القماش 1909، الموجودة في المتحف العالمي للفن الحديث في فينيسيا بإيطاليا، وكل ما تحتويه، يبدو احتفالي لا يخلو من الموسيقى... إلا أن ذلك الإجهاد الواضح على ملامح المرأة، جاء كضربة إيقاع قوية لتوقظ لدى المشاهد أكثر من سؤال، خصوصاً عند النظر إلى الرأس المسحوب بأصابع أخذت شكل مخالب حيوان منغرسة في خصلات شعر الفريسة... يبدو الرجل نائماً، لمن لا يعرف قصة سالومي... فهل حقاً أنه نائم؟ الجواب بكل تأكيد سيكون النفي، فهذا الغموض الذي تعمده الفنان النمساوي غوستاف كليمت، صاحب الحس الإنساني المرهف، الذي كثيراً ما صور القبلات ولحظات العشق بألوانه الاحتفالية الخاصة واحتضان الأمهات لأبنائهن، الفنان الذي عُرفت أعماله بأزهارها وفرحها الراقص على موسيقى الخطوط والألوان، عمد إلى عدم إظهار الدم المسال من رقبة رأس يوحنا المعمدان المقطوع والذي سُلِّم لسالومي قبل لحظات ثمناً لرقصها العاري أمام الملك الذي طالما اشتهاها وحلم برؤيتها عارية أمامه... تبدو سالومي مرهقة، وهذا يتضح من خلال النظر إلى عينها الفرعونية التي تظهر ناعسة يأسرها الشبق... لقد خرجت للتو من أدائها رقصة مجنونة سلبت عقل الملك، وهي ظافرة بجائزتها، رأس القديس... ولو منحنا العمل نظرة خاصة حيث جسد المرأة بدءاً من أصابع يديها حتى بروز صدرها ثم طول رقبتها وانطلاق رأسها بملامح وجهها المندفع إلى الأمام، لوجدناه قريب الشبه من تكوين انتصاب لبوة أو (كشماء - أنثى الفهد) وهي منتصبة فوق فريستها... الواضح أن كلميت قد حذا في عمله الفني هذا حذو ريتشارد شتراوس في تأليفه لأوبراه، فكلاهما قد اعتمد أجواء مسرحية أوسكار وايلد وتوصيفاتها التي اختلفت عن القصة وحيثياتها كما جاءت بها الكتب الدينية، وهذا يتضح من خلال نصف العري الذي أظهره كليمت في عمله، بينما تخبرنا الكتب بعريها الكامل وهي تؤدي رقصة المساومة.
صحيح أن أعمال كليمت الذي تميز بأسلوبه التعبيري الخاص والمعروف بطريقة تنفيذ الديكورتيف بصيغة رمزية تظهر واضحة في مواضيع الحب والموت، وعيون شخوصه الفرعونية، تحضى بشهرة عالمية واسعة، إلا أن الفنانين التشكيليين أنفسهم كانوا في بداية معرفتهم به، قد التزموا الحذر الشديد في إعطاء أي رأي حول أسلوبه الفني ذاك... كانت أعماله موضع جدل في وطنه، أثناء حياته، في الوقت الذي كان الوسط الفني الباريسي يقدر أعماله بإعجاب واحترام خاص. فقد كان كليمت من أهم أعضاء حركة quot; الفن الجديد quot; Art Nouveau 1896-1910 في فينيا. تلك الحركة التي كان لها تأثيرها الكبير على الأجيال الفنية اللاحقة مثل أوسكار كوكوشكا وغيره...
ولد غوستاف كليمت عام 1862 في إحدى الضواحي التابعة للعاصمة النمساوية فيينا، في الوقت الذي كانت فيه النمسا تعيش حالة اقتصادية متردية، وفي عام 1876 باشر دراسته في مدرسة الفنون في فيينا ليتخرج منها عام 1882، ثم يؤسس عام 1883 مع أحد أشقائه ورشة صغيرة حصل من خلالها على فرصة العمل في تزيين المنازل والمتاحف والمسارح. ومنذ عام 1897 حيث ظهور بوادر تمرده على كل الطرق والمدارس الفنية الكلاسيكية، تبنى فكرة quot; حركة الانفصال الفنية quot; بعد ابتكاره أسلوب خاص به يعتمد التعبيرية وضعه في مصاف رواد حركة الفن الحديث.