الحلقة الاولى: جرير

يعتبر الشاعر الاموي جرير (33- 114 هجرية) في طليعة الشعراء الذين كسروا حاجز الاعتقاد الذي بنته عوامل البيئة والعصر والعادات، والذي يعيب على الرجل رثاء زوجته والبكاء عليها، وهو الامر الذي لم يألفه العصر الاموي من قبل ولا العصور التي سبقته، فقلب جرير بذلك نمطا من انماط العادات وغرضا من اغراض الشعر التي سار عليها ركب السابقين له والمعاصرين ووجدوا انه (سنة سيئة).
وتعد مرثاة جرير في زوجته (خالدة) من اقدم المراثي الزوجية اذ لم يتطرق احد من قبل الى ذلك ولا وصل اليه، وبطبيعة الحال لم يكن ذلك البكاء الشعري الحزين لجرير في زوجته لولا حبه الكبير لها وشغفه بها وشدة لوعته بفقدانها، ولكنه (وهو يسعى) الى اكثر من الاستعبار الذي كان في نفسه لها، كان يرتد الى ما قبل ذلك، متأملا ما للقوم من عادات تعودها وتقاليد جبل عليها، لذلك فهو حينما بدأ قصيدته الرائية لم يجد الا ان يعبر عن ما للعصر الذي هو فيه من اعتقاد ويوضح ذلك من ان البكاء على النساء (عيب) على الرجال وان رثاءهن سبة غير مغتفرة، فبدأها بتفسير الموقف الاجتماعي واظهاره للعيان وبأعتذار ضمني، لكن حسرته كانت واضحة، لذلك قدم القصيدة بجميل الاعتذار الذي اسسه الحياء، فها هو يحبس دموعه خجلا بحسن اعتذار يقول فيه:
لولا الحياء لهاجني استعبار
ولزرت قبرك والحبيب يزارُ

انه يعترف بالحق الكامل للزوجة وبطموحه المشروع ويسجل لوعته بهدوء عجيب وخجل شديد وكأنه يقول ذلك وهو يطأطأ رأسه ويطلق حسرة تشق القلب، فقد اوقفه حاجز الحياء على مشارف تأملات طويلة غذتها لوعته على فقدان زوجته الحبيبة وام ابنائه الثلاثة (حرزة، حكيم وبلال)، ذلك الحياء الذي فرضه عليه النظام (القبلي)، مما جعل نقيضه (الفرزدق) يستغل تلك الالتفاتة من جرير ليهاجمه من خلالها، لان الامر عند جرير مختلف عنه عند الفرزدق الذي (ينظر الى النساء نظرة ازدراء وتحقير) وانهن (أي النساء) (اهون شيء.. واخر شيء يبكي عليه).
ان من حق جرير ان يستعبر وان يبكي زوجته ويصوغ الكلمات رثاء لها، وجد ذلك من حقه، وان كان يعي ما معنى ذلك، لاسيما انه كان كبير السن، هرما، ولكبار السن (كما هو معلوم) شعور بالضعف امام الحالات الانسانية الخاصة، وان الامر الاقسى هو فقدان الرفيق والعشير، لان فقدانه على الاقل هو ايذان بشيء مشابه وشعوربقرب الاجل على اقل تقدير تفرضه الحالة النفسية، والشيء الاخر ان زوجته (خالدة) قد تركت له ابناء (زغب الحواصل) حرموا من حنان الامومة والرعاية، وهو على كبرته لا يستطيع تقديم ذلك لهم لاسيما انه بحاجة الى الرعاية والحنان اكثر منهم، فكان قوله:
ولهت قلبي، اذ علتني كبرة
وذوو التمائم من بنيك صغار

ان الحياء الذي تولى جرير وعظم امره وهو امام حالة انسانية فريدة تمثلت في(موت الحبيبة) بما تعنيه هذه الكلمة، فمنع نفسه من البكاء على رفيقته حال بينه وبين زيارتها (وهي ثاوية في قبرها) وهي الحبيبة التي لا بد ان تزار وان تسكب عندها العبرات وان كانت ميتة، لان الوفاء مدعاة لذلك، هذا الحياء كان يتقطر االما عظيما اسسته العوامل الاجتماعية الغارقة في كبرياء غير مشروعة، فكبح جرير مآقي عينيه من الاسترسال بذرف الدمع وغل اقدامه فمنعها من عبور الحاجز الوهمي لزيارتها.
فقد ذكر عن جرير انه (معروف بعسر الخلق وجلافة الطبع) وانه بكى ذات مرة حين مرت جنازة منه وقال (شيبتي هذه الجنازة)، أي(ذكرتني بالموت)، وهاهو امام جنازة زوجته يراها تمر منه، ومن الممكن تصور مشاعره وهب تفيض لتملأ كأس روحه بالاسى، ومن هنا كانت قصيدته الرائية هذه لتكسر ماهو متعارف عليه وبذر بذرة اينعت فيما بعد وصارت شجرة كان له فيها قصب السبق، لقد وصف جرير زوجته بأحسن الاوصاف وخصها بافضل الخصال، واغدق عليها من المشاعر والاحاسيس ما يصور حزنه ولوعته، فها هي: كريمة النفس، جميلة المنظر، وقورة، هادئة شريفة، وكذلك فهي: اصيلة المنبت والنسب وطيبة القلب، ويمتد بجرير ذلك الاحتفاء بما تحمل زوجته من خلق رفيع وجمال بديع، وكل ذلك يصوره وفاء رائعا للحبيبة بدموع مكبوتة وحسرات لاذعة وبلهب نار مسجرة في القلب، فيسبغ عليها من حلل الحسن نفسا ومنظرا حتى يصل الى روعة الوصف للجمال البريء بقوله:
ولقد أراك كسيت اجمل منظر
ومع الجمال سكينة ووقار

ومع بكائية جرير وتصويره لفجيعته الا انه لم يجد امامه بدا من هجاء الفرزدق في النصف الثاني من القصيدة، وعلى الرغم من ان العديدين عابوا على جرير ذلك، الا ان الوجع الذي اصاب قلب جرير من (تعليقات) الفرزدق كان اشد وطأة، ولم تكن الرثائية مقدمة لهجاء الفرزدق، لان جرير لم يخرج من دائرة (ام حرزة) وذلك لان الفرزدق كما قال جرير قد عاب زوجته، فكان رده:
أفأم حرزة يا فرزدق عبتمُ
غضب المليك عليكم الجبار

ففي هذا البيت يكون جرير قد ربط بين جزءي القصيدة ربطا محكما، ففيه يذكر اسم زوجته واسم الفرزدق، والذي يتأمل الشطر الثاني من البيت ذاته يجد المرارة العظيمة التي افرزتها روحه بسبب رحيل زوجته، والالم العظيم في نفسه اشعل ناره على الفرزدق ليرد بكلمات تتجاوز شخص الفرزدق الى امه كون التي عابها امرأة وعليه فالعين بالعين !!.
تظل مرثاة جرير هذه من اروع المراثي الزوجية ان لم تكن القمة، ففيها تصوير صادق لحالة الموقف الاجتماعي والموقف النفسي الذين عاناهما وقدم من خلالهما حالة الاسى التي اكتنفت مشاعره وسورت احاسيسه.

القصيدة

لولا الحياء

لولا الحياء لهاجني استعبار
ولزرت قبرك والحبيب يزار
ولقد نظرت، وما تمتع نظرة
في اللحد، حيث تمكن المحفار
فجزاك ربك في عشيرك رحمة
وسقى صداك مجلجل مدرار
ولهت قلبي، اذ علتني كبرة
وذوو التمائم من بنيك صغار
ارعى النجوم وقد مضت غورية
عصب النجوم كأنهن صوار
نعم القرين وكنت علق مضنة
وارى بنعف بلية الاحجار
عمرت مكرمة المساك وفارقت
ما مسها صلف ولا اقتار
فسقى صدى جدث ببرقة ضاحك
هزم، اجش، وديمة مدرار
متراكب، زجل يضيء وميضه
كالبلق تحت بطونها الامهار
كانت مكرمة العشير ولم يكن
يخشى غوائل ام حرزة جار
ولقد اراك كسيت اجمل منظر
ومع الجمال سكينة ووقار
والروح طيبة اذا استقبلتها
والعرض لا دنس ولا خوار
واذا سريت رأيت نارك نورت
وجها اغر يزينه الاسفار
صلى الملائكة الذين تخيروا
والصالحون عليك والابرار
وعليك من صلوات ربك كلما
نصب الحجيج ملبدين وغاروا
يانظرة لك يوم هاجت عبرة
من ام حرزة بالنميرة دار
تحيي الروامس ربعها فتجدًه
بعد البلى، وتميته الامطار
وكأن منزلة لها بجلاجل،
وحي الزبور، تجدًه الاحبار
لاتكثرن اذا جعلت تلومني،
لايذهبن بحلمك الاكثار
كان الخليط هم الخليط فأصبحوا
متبدلين، وبالديار ديار
لايلبث القرناء ان يتفرقوا
ليل يكر عليهم ونهار
أفأ محرزة، يافرزدق، عبتم
غضب المليك هليكم القهار
كانت اذا هجر الحليل فراشها
خزن الحديث وعفت الاسرار
ليست كأمك اذ يعض بقرطها
قين وليس على القرون خمار
سنثير قينكم، ولا يوفى بها،
قين بقارعة المقر مثار
وجد الكتيف ذخيرة من قبره
والكلبتان جمعن والميشار
يبكي صداه، اذا تهزم مرجل
او انْ تثلمً برمة اعشار
رجف المقر وصاح في شرقية
قين عليه دواخن وشرار