يكرم اليوم وكتاب جديد يتجول في عقله وروحه
الشيخ التويجري... الروح الجامعة وحافظ السر الملكي
العلوي لإيلاف: quot;ما كتبته يمثل 20% من شخصيته والباقي سر من الأسرارquot;
ممدوح المهيني من الرياض: على طريقته المتواضعة المعهودة عنه، كان الشيخ عبدالعزيز التويجري يقدم نفسه رجلاً عاديًا وبلا مزايا مثيرة للاهتمام. فهو لا يعتبر نفسه سياسيًا حاذقًا، ولا دبلوماسيًا نادرًا، ولا كاتبًا ساحرًا أو مثقفًا موسوعيًا. ولكن من خلال إجابته المتواضعة هذه، والتي تعكس ربما رغباته العميقة في أن يكون بسيطًا وصافيًا وبلا ألقاب، على الرغم من الحياة المركبة والصعبة التي عاشها، إلا أن هذه الإجابة المتكررة تكشف لنا جزءًا من حقيقة الشيخ التويجري. إنه بالفعل لم يكن سياسيًا ولا دبلوماسيًا ولا كاتبًا ولا مثقفًا، فهو مزيج معقد وعميق من كل هذه الميول الإنسانية المتعددة، والتي يبدو بعضها متضاربًا. ولكنه استطاع أن يجمعها بداخله ويجعلها منسجمة ومتماسكة وقوية، وهذا الأمر تحديدًا هو الذي يعكس السحر والجاذبية في شخصية الشيخ التويجري. كيف قام بذلك؟!. الجواب نجده في عنوان كتاب جديد للكاتب العراقي حسن العلوي:quot;عبدالعزيز التويجري..الروح الجامعةquot;.
quot;الروح الجامعةquot; تبدو إجابة رائعة ومختصرة وتعكس جزءًا من حقيقة الشيخ عبدالعزيز التويجري، ولكنها مع ذلك تترك جوانب كثيرة غامضة وصعبة وسرية في شخصية الشيخ. يقول الكاتب العلوي في حديث مع quot;إيلافquot;: (قدمت أقل من 20% فقط من التويجري أما الـ 80% الباقية فستظل سرًا من الأسرار). من المؤكد أنها ستكون سرًا من الأسرار، فالشيخ المتواضع البعيد عن الكبرياء، والذي طلب من مؤلف هذا الكتاب إرجاء نشره لما بعد وفاته، كان قطبًا جوهريًا في عالم السياسية العربية المحتدم والملتهب بالصراعات والخلافات، والتي تدور تحت ستار من السرية والغموض. ولعب الشيخ أكثر الأدوار صعوبة مستخدمًا مهاراته السياسية والدبلوماسية النادرة لتهدئة هذه المنطقة النارية، وجعل الأعداء يتوقفون عن كراهية بعضهم. طار الشيخ التويجري عشرات المرات بالطائرة من أجل أن: (يعقد الصلح ويشيع السلم الأهلي بين الشعوب وحكوماتها وبين الدول وبعضها) كما يقول العلوي في كتابه. وقد نجح في ذلك كثيرًا، على الرغم من السرية التي تغطي نشاطه. ولكن المراقبين السياسيين يعرفون جهوده الكبيرة في تهدئة الوضع المتأزم بين العراق وسورية خلال الحرب الإيرانية العراقية. وقبل ذلك تمكن من التوفيق بين السياستين السعودية والسورية على الرغم من تناقض موقفيهما من الحرب الإيرانية العراقية. وأستطاع أن يقيم quot;جسرًا بين إيران والسعودية بعد الحربquot; وquot;قد يذهب في مهمة فيدخل إلى بيت أنديرا غاندي، وقد يدعو بنازير بوتو إلى بيته quot;. لماذا يفعل ذلك؟!. جواب العلوي البليغ يشكل جزءًا مهمًا من طبيعة الشيخ التويجري المتميزة، والمتطلعة للقيام بأكثر الأدوار صعوبة. يقول العلوي:(لقد امتهن شغلة الجمع بين متنافرين، والتوفيق بين الفرقاء، وحملهم إلى عالمه الصافي. إن عينه دائمًا ترنو إلى الأرواح المنشقة، فيطاردها حتى يمسك بها وتتمسك به في حضرته). هذه النوازع القلقة والمتطلعة إلى الانسجام والتوافق منبعثة من الرغبات الوطنية المخلصة التي يكنها الشيخ التويجري لبلده السعودية. شخصية الشيخ عبدالعزيز التويجري تتداخل مع مشروع الدولة السعودية، وهو الذي عاصرها منذ البداية. فهو مغرم بشخصية الملك عبدالعزيز الذي احتضنه عندما كان شابًا، وهو المخلص لأبنائه الملوك من بعده، وتبدو كل تصرفاته وأحاديثه وجهوده السرية والعلنية تهدف لخدمة هذا الوطن الذي أصبح نجاحه وتطوره يمثلان نجاحًا للشيخ التويجري نفسه. يقول حسن العلوي لـ quot;إيلافquot;: (كل ما يقوم به الشيخ التويجري من جمع الأضداد المتنافرة. يأتي لتوسيع الفلك السياسي لبلده السعودية). ويقول في كتابه:(إن التويجري، يسعى لتكريس مصالح إستراتيجية لشعبه ودولته وملوكه الستة الذين عمل بقربهم. وانتشرت دعوته، خارج المملكة لحماية داخلها، فنهض بدور دبلوماسي تخصصي، وكأنه سفارة متنقلة، أو وزارة متحركة).
هذه الرغبة العميقة والملحة لدخول المناطق الصعبة والمتصارعة للقيام بدور يخدم بلده، هي نفسها التي أبعدته عن الساحة الخليجية التي كان يراها متجانسة، ولن يستطيع أن يؤدي فيها دور quot;الروح الجامعةquot; التي يهواها ويجيدها تمامًا. الشيخ التويجري كان يفهم جيدًا، وبحذاقة مذهلة، كيف يستخدم طاقاته الجامعة في مكانها الصحيح. في داخل مجالس التويجري في الداخل والخارج نلمح بسهولة هذه quot;الروح الجامعة quot;. فيمكن أن يجلس لديه المعارض وسفير الدولة ويتقابل الكتاب الإسلاميين والماركسيين. مجالسه الجامعة يلتقي بها الأضداد المتناقضة، وهي الأماكن الوحيدة التي يمكن أن يتواجدوا فيها من دون صراع وشقاق. وكل هذا يحقق رغبته في أن يبقوا مختلفين ولكن منسجمين مع بعضهم.
يقول حسن العلوي: (الجنادرية هي أكبر الأسرار المفضوحة عن دور الشيخ التويجري لتجميع المختلفين والمعترضين في مكان واحد وتحت مشروع واحد. كان هناك بعض المعترضين على هذا الموقف، ولكنهم لم يدركوا أن الشيخ يفكر بطريقة أكثر اتساعًا. أنه يهدف دائمًا إلى توسعة الفلك السعودي حتى يضمهم داخله). ومن دوافع هذه الرغبة كان السبب لاستكتاب الصحافي الشهير والمريد الناصري محمد هيكل مقدمة كتابه المعروف quot;لسراة الليل هتف الصباحquot;، الذي أغضب بعضهم بسبب مواقف هيكل المعارضة للسعودية. وعلى الرغم من أن الشيخ التويجري برر ذلك في رد على رسالة د. غازي القصيبي المعترضة، والذي قال فيها إن اختياره لهيكل بسبب عالمية قلمه، وحتى يوسع نطاق قراء الكتاب. غير أن العلوي لم يكن مقتنعًا بهذا الرأي، ويعتقد بأن ما قام به (هو عمل سياسي محض لا يبتعد عن برامج الشيخ التويجري المعدة سلفًا، ورغبته في رؤية من ابتعدت بهم اجتهاداتهم السياسية والأيديولوجية).(إنه يعمل في مشروع توسعة الفلك السياسي لبطله الملك عبدالعزيز، وهذا يستدعي بناء منهج وآلية، تستهدف أولاً من هم أقصى اليسار الوطني القومي. أو من كانوا ينتمون إلى مدرسة غير مدرسة عبدالعزيز). هذه المدرسة التي كان يراها في جميع أبنائه الملوك الذين أتوا بعده، وكان يهدف إلى استحضارها ودعمها وترسيخها. وكان يعمل من خلال جميع المتعارضين والمتناقضين تحت سقف الدولة الواسعة والكريمة والعادلة تحقيقًا لمدرسة الملك عبدالعزيز الكبيرة وذات الرؤى البعيدة والعميقة.
كتاب العلوي يطلعنا على العلاقة العميقة المميزة التي تربط الشيخ التويجري بالعاهل السعودي الملك عبدالله بن عبدالعزيز. فالشيخ يرى في الابن صورة الأب في عدله وشهامته. وكان التويجري (الذراع الفكرية للأمير والملك عبدالله كما يقول العلوي. وكان يمثل الحركة في منطقة حرة لا يحدها مانع من تضاريس الإدارة، وكان الملك يرى في صاحبه نفساً غير أمارة ومستودع حكمة).
الكتاب يعتبر عملاً توثيقيًا جيدًا لأحد رجالات الفكر والسياسة السعوديين في العصر الحديث.
من الواضح أن الشيخ التويجري كان سياسيًا واقعيًا ويؤمن بالحلول الممكنة عن طريق التفاوض الطويل والشاق، وهذا الأمر الذي يجيده. كما أنه صاحب رؤية استراتيجية وحس تنبؤي عالٍ، ويبدو ذلك واضحًا ما يحدث في العراق ولبنان هذه الأيام. في كتاب العلوي يمكن أن نلمس هذا الحس الاستشرافي العالي، فهو يعتقد أن الوضع السياسي في لبنان شديد التعقيد ومزعج ومن الصعوبة حله، وهذا ما نؤمن فيه الآن تمامًا مع وجود لبنان يعيش من دون رئيس لأشهر طويلة. أما في العراق فلنسمع هذا الرأي الذي يعبر عن رؤيته السياسية في حل الأمور، كما ينقله عنه العلوي: quot;لم يكن مقتنعًا بأن أي أخطاء في أي نظام سياسي يمكن أن تكون مبررة لتحالفات إقليمية أو دولية تستهدف تغييرهquot;.
التويجري رجل الدولة، يستخدم كل مواهبه الشخصية وفطنته العالية وثقافته الواسعة، وذلك من أجل خدمة الدولة، التي تشكل جزءًا من تكوينه. وفي كتاب quot;الروح الجامعةquot; يمكن لنا أن نكتشف هذا الشخصية المخلصة لمشروعها الخاص والذي هو مشروع الجميع. وكان رأيه واضحًا في احتضان التغيرات والتطورات التي ستساهم في نهضة بلده وازدهاره. يقول الشيخ التويجري في أحد آرائه: quot; لذلك-نراه الملك عبدالعزيز- آمن بالاكتشافات العلمية ولم تهزمه اجتهادات الآخرين التي رأت البرق وفي التنقيب عبثًا، حتى وصل عند بعضهم إلى تحريمهquot;. للشيخ التويجري فلسفة رائعة ومثيرة في رؤيته للتطور البشري الذي يجب أن نكون مساهمين فيه ولا نشعر بغرابته. أنه يسمي مثلا الأقمار الصناعية بquot; بالجمال الكونيةquot; وينشد أن يكون هناك واعظ للقمر. هذه التسميات لا تعكس فقط رغبة الشيخ في تقريب هذه الاكتشافات من ثقافتنا الخاصة ولكن من أجل توسيع المدارك العقلية وإزالة كل النفور من هذا التطور والمكتشفات المذهلة بسبب الحواجز العقلية التي تمنعنا من فهمها وإداركها. فلسفة التويجري العميقة والمعقدة، يمكن توضيحها بهذا الاختصار الرائع والمكثف للعلوي: quot;التويجري يستخدم الإنجاز العلمي الحديث ويضيفه إلى حواره الدائم مع مفكري القدرة الإنسانية من جهة ومع مفكري الوجود الآلهيquot;.
quot; واعظ القمرquot; هذه التسمية الغربية والملفتة، هي النتيجة المختصرة التي تخبئ خلفها مراحل عميقة من التفكير التي لا ترى تعارضًا بين الدين والإنجاز العلمي والفكري حتى لو وصل إلى القمر.
في فصول هذه الكتاب الذي يحاول أن يتجول في شخصية التويجري الفريدة والكتومة يمكن أن نلمح بعض الجوانب في شخصيته ونفسيته ومزاجه. أنه شخصية واثقة من نفسها وصريحة ولكنها قلقة ومتمردة في أعماقها, ويبدو ذلك من خلال رسائله إلى الأطباء النفسيين التي كشف عنها، وهو الأمر الذي يعد سريًا ومخجلاً عند الناس العاديين فكيف بشخصية معروفة ومهمة مثله. كان يشكي لهم القلق والتمزق الذي يشعر به في أعماقه، وهو الذي قال عنه الدكتور المصري محمد فتحي في رسالة الرد بأنه:quot; نتيجة للصراع المحتدم بين الشطرين المتناقضين من الطبيعة البشرية، واللذين يكنهما كل إنسان في نفسهquot;. وسنرى في رسالته لابنه عبدالمحسن بعضًا من هذا القلق والحزن في أعماقه وإحساسه بالفراغ الذي كان يرافقه منذ الطفولة، وكيف تحولت مشاعره مع قدوم ابنه البكر الذي quot;أحس معه بطعم الحياة وكان لها عندي مذاق جديد وتعلق بها quot;. كما يمكن أن نتكتشف ولع الشيخ التويجري بالقراءة التي يفضلها أحيانًا على حساب العمل والأكل والتي تدخله في خلافات مع أبنائه، ولكنه يعتبرها البلسم الذي يهدئ من روحه والنافذة التي يتسرب منها ضيقه.
ويعرض هذا الكتاب (موجود حاليًا في معرض الرياض الدولي للكتاب) الذي يحاول أن يتجول بعقل وروح التويجري بطريقة معقدة ومتشابكة تعكس شخصية التويجري الرسائل المتبادلة بينه وبين بعض السياسيين والكتاب والتي تظهر الجانب الشفاف والرقيق من شخصيته المنفتحة والعميقة.
كتاب quot;الروح الجامعةquot; فرصة رائعة للتعرف أكثر على هذه الشخصية العظيمة ومعرفة أهم أدوارها الذي جاهد هو كثيرًا ليخفيها عن الجميع، ولكن الكتاب الذي كتب بطريقة شاعرية وأدبية يحوم حول حياة التويجري الواسعة وتلقي عليها بعض الاضاءات الخاطفة، وهذا شيء يحدث دائمًا مع الشخصيات الإنسانية الأسطورية التي تبدو ساحرة ومحيرة وغامضة، وهي التي تجعل الكثيرون يفتنون بها ويبحثون عن أسرارها. وهذا ما يحدث الآن مع الشيخ التويجري، رجل الدولة، وحافظ السر الملكي، والروح الجامعة، الذي تحول لأسطورة حتى قبل أن يموت. وهذا الكتاب الذي سيعقبه عدد كبير من الكتب، ما هي إلا ملاحقة لهذه الأسطورة النجدية التي ولدت في quot;حوطة سديرquot;، القرية الصغيرة والنائية وسط السعودية ولن يكتب لها الموت أبدًا.

تكريم التويجري:
كرم ليلة أمس الشيخ الراحل عبدالعزيز التويجري مع افتتاح مهرجان الجنادرية كشخصية ثقافية لهذا العام، وهو الذي يعد أحد أقطاب المهرجان منذ البداية وحتى وفاته العام الماضي، كما سيتم اليوم افتتاح المعرض الخاص بتكريمه، وسيحضره عدد كبير من الوجوه السياسية والثقافية والإعلامية المعروفة