عندما استقلت بلاد quot; بالدوفوquot; نشأت فيها دولة عصرية ناهضة، بادرت بوضع قوانين وتشاريع تنظم الحياة العامة والعلاقات بين المواطنين، وبينهم وبين السلطة. حتى ظن العالم كله أن هذا البلد محظوظ و منذور لمستقبل زاهر قد يرفعه يوما إلى صف البلدان المتقدمة ذات الصول والحول.
إلا أن كتابا وقع بين يديّ (غير مطبوع لخوف صاحبه من الرقابة ربما)هو مذكرات سينمائي قديم عاش ايام الاستقلال الأولى، وأدار في شبابه فريق تصوير الأحداث الإخبارية التي كانت تذاع شهريا في قاعات السينما، قبل أن يخلق التلفزيون ويدخل البيوت بنشرة أخبار يومية.
كان من دواعي مهمة الرجل مخالطة رجال السلطة ومرافقتهم في الجولات والأسفار،والحضور أغلب يومه في البلاط والأروقة المخملية،لرصد الأحداث الهامة، وتسجيل الصور الجديرة بالتخليد. واستمرّ في ذلك أعواما، إلى أن كبر و ساءت صحته، فأهدي له وسام، وقعد في البيت إلى أن مات.
حكى في مذكراته (التي أطلعني عليها ابنه) أنه ndash; من زمن بعيد جدا ndash; أنهى ذات مرّة تصوير آخر مشهد للأحداث الشهرية في حضرة قطب الأحداث ومركز دائرتها حينذاك (لم يذكر اسمه ولا وصفه بالأمير أوالحاكم أو الرئيس، ربما خوفا من الرقابة دائما). وفيما كان مساعدوه يجمعون الكاميرات والخيوط والمصابيح، التأم جمع الحاضرين للاستراحة بدون كلفة، حتى امتزج ndash; كما لا يحدث دائما ndash; فريق التصوير بالحاشية ورجال السلطة. لكن هؤلاء اصطفّوا على الأرائك الوثيرة، وأولئك ظلوا واقفين عن قرب أو بعد. دار الحديث عندئذ عن الشريط الجاري تجهيزه: كيف ومتى سيظهر؟ وعن شريط الشهر المقبل: ماذا سيتناول من مواضيع وأحداث يجب إعدادها من قبل.
قال الكبير، أو الأكبر حسب تعبيره (ولم يذكردائما أهو أمير أم حاكم أم رئيس):
-الحصيلة طيبة هذا الشهر...ما رأيكم؟
-حدث الشهر القادم أولى بالتركيز والاهتمام... يا سيدي.(قالها أحد الجالسين على الأرائك بحماس)
-وماذا ينتظرنا في الشهر القادم؟ (تساءل الحاكم أو الأمير أو الرئيس).
-كيف نسيت يا سيدي عيد ميلادك؟ (قالها رجل أشد حماسا من الأول).
-سوف لن نركّز عليه كثيرا... أنا لم أنسه، لكن سأحتفل به عائليا.(هذا رأي الرجل الأكبر ألقاه بدون اهتمام).
-عيدك هو عيد الشعب كله فكيف لا نركّز عليه؟ لا بدّ من تسجيل الحدث قوميا وشعبيا...يا سيدي.(وذكر على لسان آخرين جملا حماسية تحمل نفس المعنى).
-لا... لا تهتمّوا بالأمر كثيرا.(وكانت نيته صادقة في إنهاء النقاش، كما لاحظ المؤلف).
وهنا ارتفعت أصوات الاحتجاج من الحاشية ورجال الدولة الحاضرين،و ضمّ بعضهم كفّيه إلى صدره راجيا بتذلل واستعطاف أن لا يخيّب أملهم في استيقاف التاريخ وإشهاده على وفاء هذا البلد لرجاله العظام. وهنا اكتسب الموقف صبغة وطنية مازجتها مسحة عاطفية ابتلّت منها عيون بعضهم تأثرا بتواضع هذا المناضل الفذّ (الذي لم يحدّد صاحب المذكرات صفته).
لم يستجب الرجل، ولكن تمنّعه لم ينفع أمام إصرار الجماعة وإلحاحهم وتودّدهم. فتقرّرهكذا الاحتفال بعيد الميلاد لتلك السنة، واستمرّ يتقرّرلسنوات عديدة بعدها. وكان التنظيم في بادىء أمره محتشما (لأن الرجل الكبير أراده كذلك)، لكنه تضخّم سنة بعد أخرى، وأثريت برامجه كل عام بما لم يكن في الذي قبله، حتى صار أشبه بكرنفال سنوي، ينتظره الجميع، ويسخّرون له المال والرجال،بما في ذلك قوافل الإخلاص الولاء، ومظاريف المغنين والشعراء. وبالجملة والاختصار: أصبح رداء تقضى من تحته الرغبات، وموسما تحقّق فيه الأغراض والحاجات.
ومن عجب ndash; كما يروي صاحب المذكرات ndash; أن المعنيّ بالأمر(الأمير أو الحاكم أو الرئيس...لا أدري) استمرأ طقوس هذا العيد، واستطاب طعمها (بعد أن رفضها في الأول) فتشبّث به أكثر من بقية الأعياد والذكريات الهامة في تاريخ البلد، و بات ينتظر موعده كل سنة على أحرّ من الجمر، فيجلّس له المجالس،ويقيم المآدب، ويتّخذ له من السّمت والهيئة أكثر مما يتخذ عادة لعظائم الأمور.
ويقول (صاحب المذكرات) أن الحاشية ورجال الدولة وولاة الأقاليم تباروا في تجميل تلك المناسبة بأنواع الفنون، والإنفاق عليها بسخاء، وتحميلها من المعاني ماتحتمل ومالا تحتمل، إلى درجة يصعب أن يجاريهم فيها من جاءوا بعدهم، إلى تاريخ يوم الناس هذا (ويقصد المؤلف تاريخ إنهائه للمذكرات).
ويقول أيضا: إن أغلب أقطاب تلك الفكرة القديمة انصرفوا إلى الآخرة (أي قبله بقليل)، وأن بعضهم الآخر عزل أو اعتزل (وشاهد هذا في حياته)، وأن بعضهم، وهذا هو الأخطر (حسب رأيه وبخط قلمه) ما زالوا على قيد الحياة.
في خاتمة الكتاب (أي المخطوط) سؤال لا أعرف لمن يوجّهه المؤلف، ولا على أي عنوان ينتظروصول جواب عليه (خاصة وقد غادر هذا الزمان وأهله) يقول: هل في عمق التاريخ ما يدلّ على فساد جيناتنا؟ أومن يتحدث عن أجرام دنيئة في عنصرنا؟
ويوجّه سؤالا أخيرا (ربما يعني به أهل الأنتروبولوجيا هذه المرّة): ابحثوا لعلنا انحدرنا من أصلاب قوم جهلة فاسدين؟ فإن لم تجدوا، وإذا ما تأكّتم أن أجدادنا السابقين في quot; بالدوفوquot; ليسوا من حثالات الشعوب، فلماذا نحن هكذا؟