نقرأ على يافطة البدء لمارك توين ما يلي: quot; بأمرٍ من المؤلف: كل من حاول أن يكتشف أن لكتابة هذا النص باعثا، سوف يتابع أمام القضاء؛ كل من شاء أن يجعل له مغزى، سوف يحكم عليه بالنفي؛ وكل من حاول أن يكتشف بأن فيه حبكة، سوف يُرمى بالرصاص.quot;
وبما أن مخالفة هذه الأمور، المشار إليها هنا، شديد عقابها، فإنني لن أحاول الاضطلاع بفك لغز أي واحد منها. لذلك سوف أنشغل بغيرها. فقد جاء في المقدمة أن أمرين اثنين، كما يقول انشتاين، غير منتهيين هما الكون وغباء البشرquot;. فعندما تفضحون الغباء فإنه quot;يلتفت ويعُضكمquot;!
أما معد هذه المختارات الذكية فقد اتخذ تصميما مدروسا بعناية في إخراجها، إذ اعتمد فيها على فصول تقصر وتطول حسب الحاجة وحسب المادة المتوفرة. أتى فيها على ذكر أقوال كتاب مشاهير مشحونة بنوع من الكراهية اللاذعة تجاه الكتابة، القراءة، الأكاديميين، المشهورين، النقاد، الناشرين، الشعر والشعراء، الجوائز الأدبية والخصومات. كما أنهاها برسالة رَدٍّ، جميلةٌ فكرةُ إدراجها. سوف أحاول أن أثير ما أراه مواتيا من هذه المختارات التي لن يختصم أحد عدم إدراجه فيها بل سوف ينشرح، عكسا، جراء ذلك، انشراحا!
1ـ الكتابة:
وكأن الكتابة ليست سوى مجرد تلطيخ سلبي ليس إلا، ما تكونه بالفعل في أحايين كثيرة، حتى يستنفر لويس فوييو من يكتب، إلى وقفة تأمل صغيرة، في قوله: quot;قبل أن تكتبوا، تذكروا جمال الورق الأبيضquot;. ويذكر بذلك الأمر بدقة وحزم، مثله مثل أوريليان شول القائل بِأَنه ولى زمان كانت فيه البهائم تتحدث، أما اليوم فهي تكتب فيه. حتى أن جيرار دو نرفال، اشتكى وصرخ، يوما، وألح في استغاثته: quot;إلى أين الفرار؟ أين سوف أختبئ؟ أي طوفان من الكتابات، جاء، في هذا العصر الباهت، يصيب باريس!quot;
مرأى ريشة واحدة، للسبب نفسهأعلاه، يثير تقزز إدوارد لير، إلى درجة أنه تمنى في قرارته أن ينتف بنفسه ريشه، هذا، لو كان مَلَكَا، مخافة أن تُستخدم ريشاته في رسم الخطوط. لكن هل تجدي فعلا كل هذه الخربشات التي تدعى عادة، لما تُجمع بين دفتين، كتابا؟ أما فرانز كافكا، فهو يجزم أننا يمكن أن نستوحي كثيرا من الكتب من الحياة غير أنه لسنا نستوحي من الكتب إلا قليلا. فماذا تكون هذه الكتب؟ هل الكتاب إذن، كما اعتقد دافيد هيربيرت لوروانس، حفرة صغيرة ومخفية، ومغطاة بغطاءين: مكان مثالي لإيداع الكذب؟ إيداع الكذب أم أن وضع كتاب، كما كتب، فيليب سولرس، هو الوسيلة الوحيدة للحديث عن الذات دون أن نعاين ضجر الآخرين!
وما دمنا في حوزة القيم، فجاك ريغو، يرى أن الكتابة ليست، بلا شك، سوى شجاعة الضعفاء. quot;حدثوني إذن، يقول، عن خمول الأقوياء، فهم ينتظرون أن يسجنوا حتى يعمدون إلى كتابة روايةquot;.
2ـ القراءة:
عن القراءة، هناك أيضا ذلك الغثيان الذي يصيب بسببها البعض، سواء من تقززٍ من المقروء، لرداءته وبؤسه أو من خلال إصابة في أول قراءة بعفن يسيء إلى كل ما قد يمكن أن يأتي من مقروء بَعدُ. فهل الكتب غير المقروءة هي التي تحظى بتمجيد كبير؟ انظروا إلى أمهات الكتب الكلاسيكية، كما يلفت انتباهنا برنارد شو. فهذه الكتب إذن يتبجح الناس كلهم بقراءتها، إذ لم يقرأها أحد حسب مارك توين. فأي الكتب إذن، لهذا كله، يستنكر هيبير حداد، تستحق أو تساوي الشجرة التي صنع منها ورقها؟قد لا تكون بالتأكيد تلك التي تنشر بعد موت مؤلفيها، إذ يرى هنري جونسون، أن هذه الأخيرة أعمال أخطأنا في عدم دفنها مع كتابها!
فإذا سلمنا مع جان كوكتو بأن روائع الأدب هي مجرد قاموس مبعثر، فكيف نفهم تقزز بول ليوطو وهو يقول: quot;تستشعرون أحيانا تقززا من الكتابة وأنتم تفكرون في عدد الحمير التي قد تقرأونquot;. صحيح أن لاستغراب مارسيل أَشَّار دواعي ثابتة، تختزل فهما كبيرا للقراءة وللرابط بين القارئ والمقروء، يقول: quot;عندما أفكر في الكتب التي يقرأها بعض أصدقائي قبل النوم (أو يداومون على ذلك) أتساءل ماذا يفعلون كي يستيقظوا في الصباح؟quot;
الأمر هنا متعلق أكثر بالأكاديمية الفرنسية التي أسسها ريشليو دروو سنة 1635، وليس عموم أساتذة الجامعات. يرى رودولف توبفير أن أولئك الأكاديميين، يستسلمون إلى كسل فظيع متى احتوتهم أفياء تلك القلعة الوارفة، فيتحول الواحد منهم إلى بهيمة وكأنه لم يمسك قط بفكرة ولا خاط أطراف جملة. بل أكبر من ذلك يصيرون وكأنهم باعة بطيخ مثل الذين سبق لرودولف أن رآهم في مدينة ميلانو!
فالأكاديمية تتشكل من أربعين شخصا، غير أن لهم، كما يستنتج أليكسيس بيرون، مثل عقل أربعة أشخاص فقط! أمر آخر يستشري بينهم وضّحه فيليب بوفار بذكاء قائلا: quot;يتساءل الأكاديميون الفرنسيون دائما عن ماذا يفعل التسعة والثلاثون الآخرون تحت القبة؟quot;
لكن، فلا ضرر، كتب جان كوكتو شامتا، فالأكاديمي هو رجل يتحول بعد موته إلى كرسي! ويردفه جورج برنانوس بتهكم آخر ليس أقل كيدا،quot;عندما لن يتبقى لي كي أفكر سوى وركي سوف أمضي وأجلسهما في الأكاديمية!quot;
يحكي أندريه سالمون أنه quot;كان هناك، في عهدي، شاعر معدم، يسكن في مكان رث وهو محروم من كل شيء، ولما عينته الأكاديمية كي تمنحه إحدى كراسيها، طلب منهم لو يقبلوا أن يحمله إلى بيته!quot;
أي سخرية مزعزعة لقبة الأكاديميين وأي إفشاء لسرّ كل معنى تلك المؤسسة!
4ـ النقاد:
يتحدث أوسبورن عن حرج الكتاب الذي يعتورهم من النقاد بقوله: quot;أن تسأل كاتبا عن رأيه في النقد هو شبيه بسؤالك مصباح شارع عن الكلاب.quot; فهل يتسلط حقيقة نقد النقاد على الكتاب مثلما تتلطخ أعمدة مصابيح الشوارع ببول الكلاب التي تخصها بتلك التحية الكريمة؟ أم أن النقاد ليسوا أبعد، في التحديد، عن قول بول فاليري فيهم، كناية، أنّ أحقرَ كُليب يمكن أن يُحدث جرحا قاتلا، يكفيه فقط أن يصاب ببعض سعار؟ قد لا يكون ذلك مؤكدا للغاية، متى اطلعنا على رأي فلوبير ورأينا أن نقد النقاد ليس ناتجا سوى من أمر آخر، إذ يقول، quot;أنه ننتج نقدا كلما عجزنا عن إنتاج إبداع فني، مثلما نتحول إلى جاسوس متى لم نقدر على حمل السلاحquot;.
على أن هناك أيضا عيوبا للنقاد مرتبطة بإنجازهم لعملهم وللحيثيات التي يتم فيها ذلك. يصرح سيدني سميث بدوره أنه لم يقرأ قط كتابا قبل أن يعد نقدا عنه. ذلك أنه على الرغم من كل ذلك فللنقاد مزاياهم. لهم دماغ مثلا. لكن أي دماغ؟ يقول إريك ساتي: quot;دماغ ناقد هو مثل مخزن، مثل مخزن كبيرquot;، نجد فيه من كل صنف طرف، القفازات، المظلات والقبعات! فالناقد، في عرفه، يعرف كل شيء، يرى كل شيء، يقول كل شيء، يسمع كل شيء، يحيط بكل شيء، يحرك كل شيء، يأكل كل شيء، يخلط كل شيء ويفكر بالطريقة نفسها تماما!
5ـ الشعر والشعراء:
هذه المقاطع تعكس كلها صورة سيئة عن الشعر والشعراء. فإن وُجد كُتاب، كما سجل بيير ريفيردي، يكتبون بواسطة النور، فآخرون يكتبون بواسطة الدم، بواسطة الحمم، بواسطة النار، بواسطة التراب، بواسطة الطين، بواسطة الماس وأخيرا الذين يكتبون بالمداد. البؤساء يكتبون، بكل بساطة، بالمداد فقط.quot; لكن ما الذي يكتبونه؟ هل هو من طراز ما وقعه شارلي شالينغو هازئا في جد: quot;باتافلا، باتافلا، فْليفلي، فْليفلي، فْلوفلو، فْلوفلو/ باتافلا، فلي فلي، فلونفون، فْلافلا / (...) إلى أن يقول: نحن في مساء خريفي/ ولا من يفهمني!quot;
قد يكون قول بوبيك نوع رد، في عاطفة أثيرت إذ قال: quot;معذرة سيدي، أراك تتحدث لوحدك، هل يزعجك
إن أنا شاركتك الحديث؟
أمر آخر قريب من هذا الحدس بِكون الشعر قد يكون من المحتمل أن ينتج من خلل، مثلما يعتقد بذلك كثير من الناس، وهذا جورج كريسطوف ليشتنبيرغ يترجم ذلك بقوله: quot;فن الشعر، لدى كثير من الناس، حاصل من تطورات مرض دهنيquot;. أما هنري فريديريك أمييل فقد مضى إلى درجة اعتبار الشعراء أنفسهم وباء، قال إن quot;الشعراء العزاب وباء عمومي، فهم يفسدون، دون أن يعرفوا ذلك ودون أن يقصدوه، كل القلوب النسائية المعطلةquot;. أما وإن فسد حال الشعراء أنفسهم وساءت خلقتهم. فذلك، لدى جيل وإدمون دو غونكور، فهو من دون تردد يعني كون الشعر قد نتج من تلك الحال المتأزمة، نقرأ: quot;كل الشعراء الذين رأيتهم ذميمون، حتى خُيل إلي أن الشعر هو مجرد ردة فعل عن البشاعة الشخصية!quot;
أمر آخر يمضي إلى المعنى نفسه قد صرح به سان أنتونيو إذ قال:quot; متى عانينا نحن الشعراء، فعوض أن نجهز على معاناتنا نسعى إلى وضع عنوان لها!quot;
رائعة في هذا الشأن رسالة أب بوال دو كاروت لابنه إذ لم يفهم أن إحدى رسائل ابنه له ليست سوى مجرد قصيدة شعرية. غير أن الأب استهزأ بابنه بطريقة رجل لم يعرف ما الذي وجه إليه وبطريقة في الكتابة لم يعرفها ولا اختبرها قط.
أما الرد الوارد آخر الكتيب فهو يحمل توقيع من يريد رد الاعتبار للكتابة والكتاب. نقرأ فيه لليشتنبيرغ أن quot; الكِتاب مرآة، فإذا شاء قرد أن ينظر فيها فليست تعكس، بداهة، صورة قديس!quot; غير أن مونتيسكيو يبجل ساعات مطالعاته، إذ يردُّ لها عرفانَ تذويبِ لحظات أشجانه!
الرسالة الأخيرة أرادت أن ترد الكيل كيلين لمن يريد أن يشتم الكتاب والكتابة وما قارب ذلك. تقصد بِنَبْلِها هذا الكتيب quot;أكره الكتابquot; برمته. غير أن أرتر كرافون كتب ذات يوم وشفع لهذا الكتيب إذ قال: quot;لا يهمني الفن تماما، غير أنني لو عرفت بلزاك لحاولت أن أطبع قبلة على خده!quot;
التعليقات