*مفتتح*
عينٌ مفتوحةٌ ومعلّقةٌ في الريح
نافذةٌ من طرازٍ عباسيٍّ
مرسومةٌ في زمنٍ قادم،
لازجاج لها ولا أفاريز..
يطل منها رجلٌ أحسبه أنا،
فيرى بغداد شجرةً مرسومةً بالفحم
على شاهدةٍ من رخام
هذه الشجرة بثياب الحداد
لها ثمرةٌ واحدةٌ
تنوس تحت خطوطٍ من الضوء،
وخيوطٍ من الريح..
ثمرتها الوحيدة مخلوقةٌ من الدموع
الدموع هذه عزاء آخر
وهذه شجرة العزاءات!
****
*1*
عزاؤك..
أنك تدافع أمسك الخبيء بهذه الجذاذات
وأنك تطرق بغداد بلا راية،
وتسدل ليلتك على شرفات من الدخان
هكذا بدت شفتك لصيقة بجمر كانون قديم
وما يتصاعد منها:
خطوط وجهك الواهنة على زجاجة بلا خمر.

****
*2*
عزاؤك أيضا؛
أنك ترتدي الألم مع الغناء
وتأوي إلى نبضة تتكرر في صدغ الظهيرة..
بينما تريح جسدك على ذكرى حائط
تآكلته الشظايا،
واغرورق ظله بدم حائل وشهوة تتململ
****
*3*
لاناي في فمك
ولاقيثارة بين يديك،
ليس يتبعك هذا النهر،
وهذه الغابة التي تسفي ..
محض مصادفة على لسانك،
فتمهل...
ليس للموسيقى ريش أيضا،
فلماذا تفتح ذراعيك للريح..
ولماذا تحسب أنك تطير إذن؟
أهو عزاؤك كذلك؟
****
*4*
ثمة وطن لك يسكر في أعلى الأرض،
ثمة امرأة.. ضائعة فيه،
ثمة أنت..ترسم الوطن على شراشف من نار..
بينما المرأة التي لك، ضائعة في ثلج بلا شراشف.
أنت نار وشراشفك.
بينما الوطن يضيع في ثلجها
ـ امرأتك التي تسكر في أعلى الأرض.
****
*5***
شجرك غريب،
وثمار شجرك يضيء متى ابتعدت الأيدي عنه
.. وينطفئ إذا اقتربت.
ليس بتولا شجرك،
ولست أيضا،
فما بالك تضيء وتنطفئ
وتضيء وتنطفئ ثانية،
وتضيء وتنطفئ ..
وليس ثمة يد تبتعد وتقترب منك.
****
*6*
الزرقة التي تبوح بها
والعتمة
ما يتبقى،
عندما تكفكف عينيك عن البحر
ذلك الذي في أساطيرك يمور.. وفي الأفق روحه..
وما يتبقى ليس سوى الوهاد
والزرقة التي تبوح بها
والعتمة الراكضة مع الذئاب...
****
*7*
المطر أيضا سبب بهذه الشفقة
سبب آخر لهذه الغربة التي ترتديك
وسبب لدموعك
المطر الذي محى الأرصفة
.. وواجهات البنايات في الخلف
محى الضوء عن الأعمدة الغارقة بالسكون
والدخان الذي في المواقد
محى وجهك الذي كان يبتسم في المرآة
المطر بأسنان لانهائية
كان يقضمك بهدوء،
بينما كنت بشفقة تتأمل المطر.
****
*8*
ذلك الشيء العابر،
ذلك المليء بهذه الحياة النافلة..
ذلك الذي يشبه البارحة، ويشبه العام الماضي،
ذلك الذي تطيل له الساعات نظرها
قبل أن يمرّ بصمت،
ذلك المركب المتهادي على موج أنيس،
ذلك اللوح التائه بعد العاصفة،
ذلك القفاز المبتور من الإبهام
والمرميّ في الوحل،
ذلك الغريب الذي يهش عن وجهه الألم،
ذلك الذي يكتب عن شيء عابر لايراه أحد،
ذلك الذي عزاؤه هذه الورقة التي ينام فيها، محتالا على الكلمات..
ذلك الطفيف هو أنت.
****
*9*
بالأمس وضعت بغداد في سريرك
ورحت تضيء لها القناديل..
ماالذي كنت تنتظره اليوم؟
الحرائق ثمار ناضجة، والموت ثمرة الثمار،
ماالذي كنت تحسبك صانعه بهذه الضفائر
هذه الكلمات الناتئة على ظهرك
وهذا الأنين الذي ادخره لك أبوك؟!!
دلّها في قبر.
العمى فضيلة وعزاء.
دلِّ بغداد في حفرة بينما الناس في الليل..
الوردة التي ستطلع مع الشمس
عين من سحر
العين هذه ستلد لك نهرا سمّه دجلة مثلاً،
والنهر سيلد جارية سمّها بغداد مثلاً،
وبينما الناس في الليل
ضع بغداد في سريرك وأوقد لها شمعة واحدة
وعلى شفتيها دع روحك تثرثر..
في عينيها سترى فراشتين من ذهب تطيران
طر معهما ...
****
*10*
الغموض لون الأزقّة هنا،
الوضوح لون الصغار الذين يركضون في الأزقّة،
بين الغموض والوضوح لون بغداد،
لا هو الغموض ولا هو الوضوح
وجهك الذي تركته مرمياً على الأرض
وجهك الذي يعبث به الضوء وتعبث به العتمة
وجهك الذي رسمته السنوات بريشتها
ومحته بإزميلها
محته كثيرا ..حتى صار حفرة في زقاق،
وجهك الوضوح محفورا في الغموض ..
هذا لونك إذن!
****
*11***
عندما ينتشي الضوء على خاصرة دجلة
تنهض بغداد لتغتسل من النوم..
بينما ألف مئذنة ومئذنة ..
تتراقص قناديلها في الهواء
أنت وحدك الذي تبصر بها عارية
تخرج من سريرك المعلق بين نجمتين
هذه بغدادك أنت!!
وهذه ليست بغدادك أبدا،
تهرّ عليها الكلاب، وتعافها اليمائم
هذه التي تجرّ أسمالها على الكرخ
لتحتضر في الرصافة،
هذه التي لاسرير لها
هذه التي تنعس شمعتها
هذه التي تثمل
وبين ساقيها يركض نهر من الدم ..
****
*12*
* *
كيف للقبلة أن تكون وطنا؟
كيف لها أن تفتح أبوابا موصدة في الجسد، وتغلق أبوبا مفتوحة في الروح ..
كيف لها هذه النشوة التي يسهب غسقها بالنبيذ، وفجرها بالموسيقى،
كيف لها هذه القطة المحلومة التي تموء في السرائر..
كيف لها أن تكون وطنا؟
كيف لبغداد أن تقود هذه الأوركسترا من الدم؟
كيف لها أن تنشد هذه الفصول الطويلة من الجحيم؟
كيف لها أن تكحل فيروزها بالسخام ..
وتجدل ليلها بالألم؟
ثم كيف لها أن تجعل من الدموع صلاة ومن الخوف مسجدا؟
****
*13*
أيهما أقدم في بغداد
الحزن أم دجلة؟
بينما الأغنيات في شارع الرشيد تطير بها حمائم الحيدرخانة،
كانت دموعك تشتبك مع الهواء المبهور بأجراس كنيسة الأرمن،
وثمة نساء يطلن صبرهن كما لوكان جديلة ..
في فسحة من رأسك،
أيهما أطول جديلة الصبر هذه أم دجلة؟
في بغداد
لم تعد سوق المتنبي أنيسة كما كانت،
هاهي الوحشة تبسط ذراعيها على جنازة من كتب وكلمات ...
أيهما أكثر هنا
هذه الكلمات المقتولة
أم الغرقى في كتاب دجلة؟
****
****مشروع كتاب شعري متعدد قيد الإنجاز يحمل العنوان نفسه.*