قصة قصيرة
السماء تبرق وترعد.. تتوعد بالمزيد والشوارع خالية، لم يكن ثمة أحد غيره هو.. سائق سيارة أجرة عجوز كان في طريقه لينام. كانت مفاجأة غير سارة أن يلتقي السائق براكب جديد في وقت متأخر كهذا، توقف قبل أن تمد يدها، بدت له تحت مصابيح سيارته القديمة فتاة حسناء ترتجف هلعا وبردا تحت الزوابع والأمطار، فتح له الباب ودعاها للصعود.. لم يشأ أن يسأل عن وجهتها، وبدلا من ذلك خلع معطفه الصوفي المشبع بدخان لفائف التبغ ورمى به على كتفيها.. تشبثت بالمعطف بقوة والطريق أصبح أكثر طولا بسبب مياه الأمطار التي شكلت بحيرات صغيرة لا تجازف بخوضها أية سيارة.
المعطف الصوفي لم يعد كافيا ليوقف هلع جسدها المبتل، أشعل السائق لفافة تبغ وأخذ يزفر دخانها الدافئ، مدت يدها الى السائق، ففهم أنها تريد لفافة تدخنها.. تماما كما يفعل الرجال، راحت تملأ صدرها بدخان التبغ، لكنها ما تلبث أن (تكح) بعنف فيزداد وجهها الشاحب هلعا ثم يسقط رأسها فوق مسند المعقد بإنهاك وتغيب عن الوعي للحظات، والسائق يزداد قلقا.. يسألها: من هنا؟ تهز رأسها دون أن تنطق، فيتأكد أنها بخير، حتى إنتفضت فجأة وأشارت له بالتوقف.. كانت قد وصلت مكانها..
إلتفتت الى السائق والمعطف على كتفيها ورجته أن ينتظر قليلا ريثما تحضر أجرته من البيت.. كان بيتا فخما، تساءل السائق في سره عن السبب الذي يدعو فتاة مثلها الى البقاء وحدها تحت العواصف والأمطار حتى ساعة متأخرة من الليل دون أن يلفت ذلك إنتباه أهلها الأغنياء!..
إنتظر السائق كثيرا قبل أن ينفذ صبره ويستعمل المنبه الذي كان صوته قد تغير بسبب مياه الأمطار.. بدا له البيت ساكنا وكأنهم ناموا ونسوه.. إزداد غضبا وراح يشتم ويتوعد والمنبه يصدر أصواتا مشوهة ضعيفة..
كانت الزوابع قد هدأت عندما أطلت من وراء الباب الخشبي الثقيل عدة رؤوس تنظر بعيون متسائلة الى السائق الذي راح يتفحص الوجوه بحثا عنها. أنكر أحدهم وهو أكبرهم سنا أن يكون أحد من أفراد عائلته قد خرج من البيت في مثل هذا الجو وهذا الوقت المتأخر، أيده في ذلك الجميع، لكن السائق أقسم على أن أبنتهم كانت معه وأنه راها تدخل عندهم..
أخيرا أقترح أحدهم أن يتفحص السائق وجوه أفراد العائلة ليتأكد بنفسه، وافق الجميع على الإقتراح ودخل السائق البيت بينما إصطف الجميع بإنتظار الحكم.. تفحص السائق الوجوه مرات عديدة دون أن يجد ضالته..
(إنها هي!)..صرخ فجأة مشيرا الى صورة معلقة على الجدار.. نظر في وجوه أفراد العائلة متوخيا أجابتهم، لكن أكبرهم سنا قال له بحزن: (إبنتي التي توفيت قبل عامين..)
صدم السائق وعاد يتأمل الصورة بإمعان، تفحصها مرارا.. (نعم إنها هي) لكنه تنبه إلى أن إطار الصورة قد وشح بشريط أسود.. لم يكن من السهل أن يتعرف بحقيقة ما يجري حوله، صرخ طالبا معطفه متهما الجميع بالكذب..
خرج الجميع بصحبة السائق مع الفجر الى المقبرة.. كان السائق لا يزال يشتم ويتوعد وأكبر أفراد العائلة يؤكد له أن أبنته الشابة ترقد بهدوء في قبرها.. وقبل أن يشيروا له إلى مكان القبر، صرخ السائق بفرح:
(معطفي.. معطفي العزيز!)
أبصر الجميع معطفا من الصوف يغطي قبرا تعرف عليه أفراد العائلة بسهولة..
كاتب وقاص من كردستان العراق
[email protected]