سوقُ الجمعة
جدرانه الكهلة كثفتْ بكنفها، يفاعة ملامسنا
موطوءة ً بخطى القرون، الغرزةُ الحجريّة
تذكرُ، رغمَ غمرَتها، هشاشة نعالنا.
مُتسلياً بتأمّل المُضلعات ذاتها، المسودّة،
لقنطرة بوظو باشا ـ
(أينَ يلوذ أعمىً، على الأرجح؟)
المتسوّلُ يسلو مسحة َ الغبطة على قسماتنا
ذا مدخلُ حيّنا!
فخرُ المدينة ـ
(إن كان لموطئ قدَم فيها، ألا يفتخر؟)
سوقُ أسواقها ـ كالشذر الدرّ بين الجوهر؛
ملعبُ الطفولة، من كِسَر مرمرهِ كوّمنا
السبعة أحجار، لتغيّبَ أجرامنا الصغيرة
الغياهبُ العملاقة للأضرحة النبيلة: ها هنا
مأوى الصالحين؛ تربة سلالة أيوبيّة حاكمة
يا لجلبة رممها؛
يا لدورها، لمكتباتها، لخاناتها، لأرباضها
يا لأعيادها ؛ ناراً موبصة ً، على مرتفعاتنا
ويا لملوكها:
مَلِكٌ كان يتلهى بباز وسلوقيّ ؛ ومملكته خاوية على عرشها.
ملكٌ كان ينظم لوامعَ القوافي؛ إخترمته غيلة ً تفعيلة المُلكِ.
ذاكَ المُقترن بستّ الخواتين، طامحاً بمشروع كبير؛
إنتحرَ سُكراً ليلة العيد الكبير. الذي ثكلَ البلدَ السعيد متألهاً؛
رأسُهُ الثمين إستوفيَ رخصاً للنطع. ذاكَ المؤتمَنُ على حصن
الحصون ؛ قايَضه بمعدن أصفرَ، خصومُنا بنو الأصفر.
الذي نكايَة خراج سلطانيّ، طارئ ؛
حَرَماً
حرماً
إنتهبَ
الكعبة َ.
قدَرٌ مُحاربٌ، حتى السهم الأخير، المُريّش من قوسهم ؛
حتى الريشة الأخيرة، في محبرتهم أو جنح شمسهم ؛
أولئكَ همو ملوكنا، الشعراء ؛ نهّابون، عادلون أحياناً
وأبداً محاربون:
قصورهم، مخيّماتُ الوغى ؛ تخوتهم أفراسٌ صديقة ؛
ظلالهم ضجرة في الهدنة، تستطيلُ بشموس أفكار بناءةٍ
عن أبنيَة وإنشاءات: سوقٌ قوسٌ، يتدلى مِزودُهُ على كتفِ
جبل وكعبَ كهفٍ هدفُ نبلته ؛ قيسارياتٌ دخيلة، بمائة
عين لمشربياتها، اليقظة، تضارعُ خلاءً ذي عين وحيدةٍ،
مريبة ؛ مدارسٌ داخليّة ـ
(تنكمشُ إزاءها، مُصغرة، بيوتُ الله)
تصعّر خدودَ واجهاتٍ مُرخمة: العقاقيرُ لرفوف مصاحفٍ
مصفرّة، والإسطرلابُ هلالٌ لمئذنة ؛ أروقة ٌ محصّناتٌ،
لها طربُ قيناتٍ، متهتكٍ، ونورٌ مرمرٌ أشنفَ أذنه مرتخياً
على رضابٍ أسمرَ لكلس الكوّة ؛ حمّاماتٌ طائشة، فرْشُها
أجسادُ محارم، مهتوكة الأستار، بفروج توّهتْ في جاماتها
المُدبّجة، التيجانَ المُدببة لشبق الأعمدة ؛ خانقاهاتٌ هوْلاتٌ،
أسرارُها غاسقة ً تنتهضُ في آجرّ كلّ قبّة محاريّة، أسجَت
رمسَ السرّ القدس ؛ في جصّ أطر مُزخرفةٍ لآياتٍ جَهمة،
مُتوعّدة ؛ في حِلاّن توريقاتٍ مُعقدةٍ لأزهار جنةٍ، موعودة ؛
في حَجَر محاريبها وعقودها ومقرنصاتها وقسْيها.
ها حيّنا مُشادٌ متألقٌ مفرسَخ، يَضيقُ بأطماركَ الخلِقة ؛
فإشعلْ هياكله، أثراُ بعدَ أثر
أيّها الكبريتُ الأحمر:
هذا المساءُ على السوق المُتشامخ ـ كمنار منيفٍ، مُحتبياً ظلالنا
الضئيلة، ميّز بالوهم إسمكَ المنقوش بإفريزة بابه ؛ باب الحقيقة.
هذا المساءُ المطعون بوشم نجومه وكواكبه، سالَ دمُهُ النورُ على
حجارة الطفولة، يستفتحُ لنا ـ كدليل، بابَ مقامكَ القائم في برزخ
دونه مقام النبوّة.
هذا النورُ على المَقام المُحَلق ـ كطرْفِ البرق، وجودُهُ فاضَ على
عدَم يَمتارُ منه قرينُ القيّوم ؛ من كان العراءُ كثافته وصفيرهُ إغواءُ.
هذا النورُ ممتحناً شعاعه جَلَدنا، يَعشُ عينَ البرْكة المؤتزرة برخام
معرّق، والمُسَبّحة لمرأى ملايكَ مُدجَنة.
هذه الملائكة على البرْكة المُثمّنة ـ كحَوْض الجنة، هيَ طيورُ الفلكِ
الأطلس، أسحَقها التحويلُ من إقليم الأزل إلى شجرة الأحدِ.
هذه الملايكُ المُعششة في شجرتكَ، مالها تلبّسُ علينا بمزامير الغواية:
أهيَ أبدالُ الجنّ، العُصاةِ
أمْ
أنتَ
المؤمنُ
بأربابٍ
عاصيَة؟
عمّ مساءً، سوق الجمعة!
مزهوّاً بين الأماسي والأسواق، تهوّمُ بخطى العطلة المُعيّدة
وبأطياف مجرداتكَ وكائناتكَ ؛ بطفولتنا المُمتنعة أن تكون إلا
مُختلفة ؛ بالأحلام الطيور، الحاطة على أفنان شارعنا:
*
Via recta
شطرَ المدينة العذراءَ، على حدّ شفرتهِ، نصفيْن توأميْن ؛
مُمَزقا رقيم تاريخها، الممهور، عن رنكِ تنين بلا زنبقة ؛
مُقلباً عذوبة روضتها على مشهدِ عذابٍ أوار ٍ مَحرَقة ْ.
يا ذا الشارعُ المستقيم!
الشارع السيف، المُوشى إفرندُهُ برقائق مُذهّبَة لشمس الطفولة
ما للعُمْر ظلاله الصلصالُ تخاطفها، كلّ في منحَتِهِ،
خزافو المنفى؟
والمَنامُ ذاكَ ـ
(أيّ ربيع جهالةٍ؟)
تجلى له، مملوط الريش، كابوسٌ خريفٌ هوْلة:
ألا خففْ حدّة حضوركَ، يا هذا!
لا ضوءَ لي والليلُ أعمى.
للرؤيا الهولة ـ
(هكذا أرانيَها الكابوسُ؟)
خيشومٌ قِرْبَة ؛ لجوجة ً، إندلعَتْ بالأسئلة المُلتهبة
وأنى لدرع تفاسير صدّ حجارة َ المقالع المتواترة
لغزاً بعدَ لغز من مقلاع السرّ: لا همّة.
بحرانٌ ـ كدَوَران الرحى، حاذى قواعدَ الدعاماتِ
الأوثانِ، المُتهالكة ظمأً في ظلّ السبيل البخيل ؛
أينَ العمود الكورنثيّ اليتيم يتسقط متسوّلاً نسيمَ
الله المُهفهف، الأكثر حِرصاً: لا رَحمة.
تجوالٌ بخدور حِدادٍ مُزيّفٍ، تمايَلَ بأخفافٍ رخيّة ؛
آنَ أحبار السوء، على الشارع ذاته، داجَ خطوهمُ
المُتثاقلُ بخمر الليل والوطءِ الماجن السائس لكاهنةٍ
أصيلةٍ لم يَغلُ ثمَنها: لا حُرمة.
مُضافرة ً أعراض الهذيان، الهولة ُـ
(أو ما تهيّأ لي أنه هيئتها؟)
أوثجَتْ قيراطاً قيراطاً حضورها ؛ أهوَ الكابوسُ المُكفهرّ
المُغلّس، أم برج الجَرَس ؛ آهَلتْ أساريرُه تواجداً مفقوداً
لأمومة كنيسةٍ شهيدة: لا نأمَة.
*
شارعٌ أعزلَ، متدثرٌ بأفنيَةٍ مُندثرة لسلفه الرومانيّ ؛
سوقٌ مُسلحٌ، مُعتمِرٌ خوذة َ الفتح الخاقان ؛
ليلٌ أعمى، يقودُ الرؤيا مُبصرَة ً إلى سردابِ
نبيّ ؛ إلى مصاريع مُترّسةٍ بنصال الحاكم المُرائي
ومسامير المصلوب، الأوّابِ.
ذا طريقٌ إلى مدينتنا، العذراء
فليأتِ، كلّ من مهبّه، الغرباءْ.
***
الكبريت الأحمر: من ألقاب محي الدين بن عربي
الإسم الرومانيّ للشارع المستقيم: Via ricta
العذراء: نعت رومانيّ قديم لمدينة دمشق