غواية الضوء والأقزام
فيء ناصر من لندن: للفترة من 24 كانون الثاني، ولغاية 27 أبريل، يعرض كاليري الـ quot; تيت مودرن quot; عملا مهما ومبهماللفن المركب (Installation Art) للنحات الاسباني quot; جون مونيز quot; الذي فارق الحياة فجأة في 2001 عن عمر 48. يضم المعرض عددا من أعماله التي لم يسبق أن عُرِضَت على الجمهور من قبل:
تهيأ، إذن، لعدم التركيز، وللتشتيت، لأن quot; مونيز quot; لن يسمح لكَ بإستقرار الأفكار، فأعماله سرعان ما تغرس فيك وعيا ذاتيا.. مركزا.
quot; سارة مع منضدة البليارد quot; هو واحد من أعماله المعروضة في أروقة الـ quot; تيت مودرن quot; والتي تمثـّل ميله الى زعزعة مفاهيمنا المتعارفة عليها عن الفن. quot; سارة quot; هو إسم لقزم إنثى صُبّت من الراتنج عام 1996، وهاهي معروضة في قاعة مظلمة تسمح لك بالتجوال بحرية حول منضدة البليارد المضاءة بشكل فني، فيما quot; سارة quot; تجتهد بالوقوف على أطراف أقدامها (رغم إنها تنتعل حذاء بكعب عالي) كي ترى صوراً لأقزام آخرين تحت زجاج المنضدة.
بين الفترة (1980 _1990) نحتَ مونيز نحت عدد من الأعمال المهمة، والتي هي تماثيل الاقزام، الذين يُعرفون بقصر القامة ( أقل من 10 إنج ) نتيجة خلل وراثي، او لأسباب مرضية، وهو أول فنان يستلهم في عمله الفني هؤلاء الاقزام على الأطلاق.
عرضه الأخر كان لقزم يسميه quot; جورج quot; يقف على منضدة كتابة بسيطة، موجودة في كل بيت.
جورج على منضدة للكتابة
ليُشعرني بالتقزم.
مثل حلم قصير متجسد،
يمتهن الفلسفة..
وفي الآحاد
تحمله منضدته الى ركن المتكلمين في الهايدبارك
كي يلقي محاضرة عن السكوت.

أقزامه تقف بكرامة
هادئة، وصامتة
كأنها محكومة بأفكار سوداوية،
تتصرف مثل مرآة غير عاكسة.
الأقزام هنا كي يقولوا لك شيئأً عنك
لكنهم لا يقولون hellip;
لأنهم يجعلونك غير قادر على رؤية نفسك.
أقزامٌ معفيون من السلوك اللطيف
شجعان بما فيه الكفاية...كي تلقي
المُزح التي تثير الاستفزاز.
يتصرفون كدخلاء
يتفرسون فيكَ وفي حياتك
هؤلاء الآخرون...
الذين ليسوا كالآخرين.
بقي quot; مونيز quot; كتوم لما ترمز له منحوتاته من الأقزام. يقول عن ذلك: quot; عندما قابلتُ قزما لأول مرة شعرتُ بعدم الإرتياح: ليس خطأي، لكني شعرتُ بالغرابة quot;.
عندما يمر المشاهد عبر معرضه، فإنه يظل عابراً أسفل شرفات حديدية فارغة، على خلفية من جدار أبيض واسع، و عبر فناءات مهجورة حول أشكال معزولة، أو عبر زحام ضاحك.
سوف تشعر لامحالة بإضطراب متصاعد: هل هناك احد ما يراقبك؟هل أنتَ مَن ينتظرون؟ بمَ يتهامسون؟ هل هذا مسرح؟
quot; مونيز quot; لا يقدم أجوبة، اضافة الى أنه شخصياً لا يفهم منحوتاته التي يفشل في تطويقها لتصل هي الى تطويق شئ، هو غير متأكد منه تماماً.
فيما مضى أثار quot; مونيز quot; وجذب الاهتمام اليه، في منتصف الثمانينات تحديدا، من خلال تطويره الأساسي لمنحوتات مسحورة ضمن الفراغ، إذ بدأ بنحت مجسمات معمارية وأعمال فنية يشترك فيها النحت والرسم والضوء والصوت والفراغ ضمن مفهوم (Installation Art).
انظر الى الصورة: المسرح معد لهذا القزم،كي يجعله مأهولا ومؤنسنا، وكي يدير شخصياته المسرحية الرمادية، ويجعلها تتشارك بحواراتٍ وقصصٍ متشظية وغير واضحة.
وهنا دمى رمادية غامقة تتكلم من بطنها، تستقر عاليا على رفٍ، لكن الحوار على هيئة تكوينات بشرية صغيرة مترابطة بحبل: إنه الشِعر ملمومسا.
هذه المنحوتات، وفراغها الذي تشغله، تظل غير مكتملة بدونك: أنت جزء منها، فلستَ مشاهدا عابرا فقط لعالم quot; مونيز quot; هذا.
طلّق أية فكرة عما تعرفه عن الفن، و لكي تتحرك عبر هذا العالم لا بد ان تنزلق الى أحاسيسك الداخلية..المعرض كله عبارة عن تجربة تشعرك بعدم الإرتياح وبالأشباح وبالأطياف الغامضة التي ستحيطك من كل الجهات.
تخيّل أكثر حفلة كوكتيل مخيفة حضرتها، فقد تشبه (أوقات متعددة) التي أنجزها quot; مونيز quot; عام 1999. وهي عبارة عن غرفة مملؤءة بجمهور من رجال رماديين مشغولين بشئ مبهم.
هناك 100 منحوتة، 100 رجل آسيوي أصلع من السيراميك، يبتسم.

الجِلد والملابس صُبغتْ بالرمادي الغامق، الأقدام تغوص في أرضية المعرض. الإختلاف الوحيد هو في إيماءاتهم، ووضعيات أجسادهم...مرتبين بثنائيات أو بمجاميع صغيرة، وفي فراغ يتيح لنا التجوال والسؤال بحرية.
أتجولُ بينهم واواجههم بسؤالي، لكني أُقابل بالمجافاة المتزايدة والعزل: إنهم مشغولون.
إن quot;مونيز quot; يفهم جيداً روح الدعابة والسخرية، ويفهم أيضاً الرعب خلفهما: سيجعلك تشعر كأنك في وادٍ للسخرية و الإبتسامات.
كل خطوة لك في هذا المعرض سوف تثير معها سؤالا يحيلك الى سؤال آخر. قد يرتاح عقلك بعد مغادرة المعرض، لكنه بالتاكيد سوف لن يرجع الى حالته الاولى.
هذا العرض يستثمر التلاعب المؤثر في مقاييس الضوء والظل في هذه القاعة، يقف رأس باتجاه الحائط.
إنه يجتهد كي يسمع.
لكن... ماذا يسمع؟
سمعته يهمس... من خلف أنفاسه:
lsquo;fuck offrsquo;
يقذفها كأزيز آلي
من تحت جلده الشمعي.
عندما خرجتُ من هذه المتاهة شعرتُ أن quot; مونيز quot; كان يشتمني، ليس بشكل مجازي: هناك عيون تتبعني حول المعرض،همسات ربما تدور حولي، وأحاديث كثيرة تدور بالخفاء.
شتمته وأقزامه في سرّي، وخرجت الى الهواء الطلق، على ضفة نهر التايمس.

اللقطات بعدسة الشاعرة فيء ناصر