ما ذنبي؟
ينظرون إليّ باستغراب كما لو أني الضال الوحيد بين هؤلاء الكرادلة، ما ذنبي؟ الجثت التي تعفنت من كثرة المشي بلا جدوى كدستها في عربة الخشب وركضت بها في الشارع، لم أنتبه للموتى الآخرين و لا لعيونهم الوجلة وهم يصرخون متوعدين على الرصيف، هرولت لأن الوقت كان قد فات، و على مقربة من الحافة حبست أنفاسي و دفعت العربة بعينين مغمضتين إلى المنحدر.
الوحيد
كانت الفكرة تمر بطيئة مثل عقرب في ساعة، زرعت الوهم في الأصيص و عرفت أنه سينمو، يؤلمني التفكير، و عيناي تؤذيهما دائما الأشياء التي تلمع، و جوارحي ترتاح فقط للساعات المعطلة، سيبدو لهم الأصيص فارغا، لكن نبتتة غريبة كانت تصعد باتجاه السقف، و لم يكن أحد يراها سواي، نبتة غريبة و عالية، و شيئا فشيئا تتخرب الغرفة، كانوا يبتسمون بشفاه واثقة و عيون تترنح، و كنت الوحيد الذي يغمره التراب.
سيأتي
اندلقت الكلمات في هذا البيت، و لا أحد بمقدوره الآن أن يصل، و أنا لن أخرج من هاته الغرفة لأبحث في الطرقات عن الحب، أنا لا أبرح مكاني، أجلس كأي عجوز مخذول، أسمع موسيقى من القرن الماضي و أصغي إلى نحيب الذكريات، أوصدت كل باب دوني، و إذا كان الحب المجنح سيأتي فالنافذة لا تزال مفتوحة.
أخيرا
المرأة التي كنت أفكر فيها طويلا وجدتها أمس في رواية، كانت تدفئ حرمانها بخشب المواقد، تزيح الستائر حين يمر باعة الورود و حين يمر الملك المجنون تغلق الشبابيك و تفكر في طفلها الميت دون أن تبكي، إذا انتهت الأشجار فسأستظل بالخزانة و أصغي إلى حفيف الكتب.
البحّار
أحلم بأن أملك مركبا، حتى لو كان من خشب قديم، لا يعنيني إن كان بشراع أو بدون شراع، سأضع قبعة صياد على رأسي دون أن أفكر في الصيد، و أضع قدما على أخرى، و أنظر إلى حيث لا أرى شيئا، أعرف أني سأرتاح كلما أبحرت أكثر، و أعرف أيضا أن وجهك سيصعد من حين لآخر و ستلمع عيناك المريضتان لتذكراني بأني أخطأت الوجهة، لا عليك، ربما طائر الغاق، رفيقي الوحيد، يعرف هو الآخر أن البحر أرحم لي من اليابسة.
اختلفنا
ليس مجرد غصن في شجرة طرفاء، ولا مجرد واد ينتهي إلى كهف، إنها فكرة قديمة تستعاد، و أنا و أنت جئنا من الفكرة ذاتها، كنا نعتقد أن خطواتنا تكفي لتزيح عنا ظلام الطريق، لكن العالم لم يعد كما كان، و نحن يا صديقي قبل أن نجد الباب ضيعنا المفاتيح، لا تنظر إليّ فلن أنظر إليك، نحن نمران في غابة واحدة، أنت تشهر مخالبك في وجه كل وهم يمر، و أنا أحتمي بوداعتي.
حياة
إنني أراها بفمها الأدرد وعينيها البئيستين تمرق على المكنسة وقد دلت قدميها في الهواء، على كتفيها بقايا من القش و تحت تنورتها السوداء المرقعة سرب من الغربان، تقطب حاجبيها الشائبين في وجهي كي أرتعش، كيف أخافك أيتها العجوز و خلفك يجثو الموت خجولا مثل طود؟ منذ خمسمائة عام وأنا أشرب الشاي و أسمع الأوبرا ولا شيء تغير، رويدك، سنظل نلبس الجينز و نرتاد المقاهي و نكتب الشعر حتى و نحن موتى.
طريق
ليس قدري أن أعيد الذئاب إلى وجاراتها، أنا فقط أهش بهذه العصا هنا و هناك، و غالبا ما أصيب قدمي. هل ضللت الطريق؟ لم تكن أمامي من طريق كي أضلّها، أفردت جناحيّ على الدنيا وهمت، لكن رصاصا كثيرا أسقطني، ولست أتألم لحالي، إنما أشفق على سيقان النسرين التي تكسرت، و على الذين رفعوا أصواتهم بالصراخ ثم فجأة ماتوا. أعدو و أعرف أن حناني سيسقط في حقل صبار.
تماسيح
النهار يتلوه النهار، و الليل لا يريد أن يمرّ. ليس عدلا أن تفكري في شيء آخر فيما أنا هنا أفكر فيك، أعرف أنك وحيدة و كئيبة، و أن التماسيح تسبح في هوائك، كيف أحدثك عن الحب و القطارات تجتاح غرفتي؟ كيف أكتب لك عن الأزهار و بالكاد أرفع يدي وسط السافانا التي تنمو على البلاط؟
بيتي
الجو حار خارج البيت، لكن الممطر يسقط في غرفتي، و بعد قليل ستنمو حديقة فوق الطاولة، ستصعد شجرة من رف الكتب، سينحدر شلال من السقف، و سيصير بيتي غابة.
ربما تحنو
أنا الأسد الضرير في الغابة، أشهر مخالبي في وجه الليل و ألعن الظلام، رمال كثيرة زحفت إلى أجمتي، و مياه مالحة تسربت إلى الغدير، أشجار القصب لم تعد ترتجف من زئيري، خانني النهر و تمردت عليّ الأدغال، أرفع عينيّ المغمضتين إلى غيمة عالية ربما تحنو، ثم أسرّ بكبواتي إلى شجرة سرو، و أجلس وحيدا و مرتابا حيث اليأس فحسب هو من يرقد في عريني.
خوارج
نحن الخوارج الجدد، قرضنا الخرائط و كتب التاريخ، كل جرذ منا ملك، قصره يبدأ من الباب و ينتهي عند النافذة، عرشه: لا عرش له، و رعاياه عشرات الطوابير من الكتب، دخلنا المضمار بلا دليل، و راهنّا على خيول مريضة، قبلنا العيش هنا على مضض، لأن الليل سيعاتبنا إن لم نسامره، خرجنا من حروبنا بدون غنيمة، لكننا كنا نبتسم، تقفينا آثار الأجداد فلم نفلح، ثم تقفينا آثار بعضنا حتى ضيعنا الطريق إلى الكنز.
سيأتي الموت يوما ما، هل سيجدني أنا الآخر على أريكة في الغرفة أم أني سأنتظره طويلا على السرير؟ غالبا ما سيباغتني الموت من صفحة في كتاب، سأقرأ رواية و سأولع بها، ستنشب الحرب و سأختار أن أموت على مقربة من البطل النبيل، أكره الانتحار لكنني أحب المنتحرين. حين كنت طفلا كنت أخنق أنفاسي تحت وسادة الجدة و أتظاهر بالموت، كنت أرسم حبلا على الجدار و أعلق رأسي فيه، كنت أجعل من أصابعي مسدسا و أملأ الهواء من حولي بالرصاص، فجّرت جسدي مرارا لكني لم أمت، لا أحد يعرف شكل الموت سوى الذين ماتوا، أشفق على الموتى، كيف يعيشون هناك في البرد و العراء و الألم؟ كان أبي يرعى أشجار الرمان قي الضيعة، و كانت أختي خارج البيت ترعى الشياه و الحملان، و كنت أنا أتسلل في الليل إلى دولاب أمي كي أرعى الموت، كنت أعرف أنه سيكبر يوما ما، سيتساقط شعره، و سيصير له جناحان و لحية بيضاء طويلة، تقاسمت معه لعبي و أحلامي أيضا، و أذكر أني تشاجرت معه حول صبية أحببتها، كنت أريد أن آخذها معي إلى جزيرة رسمتها على الورق، بينما كان الموت عنيدا و أخذها معه إلى دهاليزه المعتمة.