... تلك كانت النقلة الرابعة له هذا النهار.. شمس رمضان الأيلولي أنهكته تماما والعرق المتصبب منه لم يجد له تعويضا فقد quot;كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلّكم تتقونquot;.
هو من مشاريع المتقين طبعا ولولا ذلك لخطف زجاجة المياه المثلجة من صديقه بينما كانت الشاحنة تواصل النزول ببطء تقطعه المكابح مرارا وتكرارا بحمولتها الكبيرة من الصخور.
شرايينه جفت واستغاثت طالبة الماء ولم يلتفت لدعوة صديقه للشرب لكنه تمنى انتهاء الشهر بأكمله كي يعود إلى زجاجات خمره الليلية.
*****
في الباص الكبير حين همت السيدة بقميصها الصيفي الأبيض وتسريحة شعرها المنزلية البسيطة باختيار مقعد لها يحميها من الطقس الحار بشمسه المجنونة هذا النهار انطلق السائق بسرعة مشتتا تفكيرها.
كانت الفتاة في مقعدها تنتظر جلوس الشاب المرتبك في مقدمة الباص إلى جانبها.. المشهد كان جميلا لمن يجلس خلف الجميع فالسرعة التي انطلق فيها الباص جعلت السيدة تلقي بنفسها في المقعد المجاور للمنتظرة المتأملة دون أن تهتم بالشمس الملتهبة فوقه، لكن الفتاة لم تتوقف عن متابعة الشاب بأنظارها.
*****
حين تزوج بفلسطينية كان يقصد إثارة غضب والده العنصري تجاههم وقطع العلاقات معه نهائيا.. المفاجأة التي لم يتوقعها يوما أن تكره زوجته الفلسطينيين أكثر مما كان والده يفعل.

*****
اليافطة الإعلانية الحديدية المطلية بالأبيض صدئت قبل يافطات أشقائه الأطباء الثلاث وهي تنتصب فوق مصطبة منزل العائلة في الدور الثالث. صدئت اليافطة وبدت وكأنها مطلية بالصدأ لا بالأبيض رغم أنه آخر من تخرج وعلقها منهم.
*****
البذلة الرمادية الغامقة بعدما ضاقت عليه وتفتقت أكثر من مرة لم تكن ملائمة أبدا لمثل هذا الطقس الحار، لكنه ارتداها مجددا هذا النهار إكراما لذكرى زوجته الراحلة.
*****
غريباً كان مظهره يحمل شعرا أشيب وتجاعيد مزمنة تغطي وجهه، والقميص الصيفي الأزرق تبلل بعرقه مرات عديدة وجف أنقص بمرة واحدة تزيد من ابتلائه في قيظ الأزمة هذه المرة. غريب كم هرب من تلك المتاريس العسكرية التي صنعت معظم تجاعيده وها هو اليوم يلوذ بأكياس رملها النازف وسقفها الخشبي من وطأة الشمس الملتهبة.
*****
يصحح الأخطاء اللغوية المخطوطة في إعلانات الشارع وشعارات الحائط وآيات الشاحنات والباصات. quot;صلّي على النبيquot;؛ يعرف تماما حين يقرأها أنه غير ملزم بأمر الصلاة على النبي من خلالها فهي موجهة للإناث فحسب لكن السائق لا يعرف ذلك أبدا.
كان يجهد لإيجاد معان للكلمات العامية بالفصحى.. ينجح حينا ويحاول مرارا وقلما يفشل.. لكنه متأكد من أنّ أقرانه لن يلوموه أبدا حين يكتب كلمة quot;الزحليطةquot; في مخطوطاته كما هي.