د. ثائر العذاري: يوما بعد يوم تتغلغل الانترنت في حياتنا، لتستحوذ على رقعة متسعة من نشاطاتنا اليومية، فتكون بديلا للحياة الإنسانية الواقعية، فالانترنت لم تعد محض مصدر للمعلومات، فقد حولتها إمكانات التفاعل والاتصال إلى وسيلة من وسائل الحياة المفعمة بالأنشطة الإنسانية من فنون وأعمال وتجارة وعلاقات فردية وجماعية.
من الواضح أن مستخدمي شبكة الانترنت أصبحوا يشعرون بالانتماء إلى مجتمع جديد، وهو ما كان يسمى المجتمع الافتراضي، ونرى إنه لم يعد افتراضيا، بل يتصف بالكثير من الواقعية ولذلك فضلنا تسميته المجتمع الرقمي.
يشترك المجتمع الرقمي مع المجتمع الطبيعي بالكثير من الصفات، فهو مجتمع متكامل يمكن فيه دراسة الفرد وطبائعه وسلوكه الشخصي، كما يمكن دراسة العلاقات الاجتماعية وخصائصها، وفيه الأنشطة الجماعية التي تتيح دراسة سلوك الفرد داخل الجماعة والحركة الجمعية والقيادات وأساليبها، كما أن المجتمع الرقمي مجتمع منتج للفنون والآداب، ومجتمع اقتصادي فاعل إذ أصبحت المليارات من الدولارات تتدفق عبر هذا المجتمع بين البنوك الألكترونية والمتاجر الرقمية، مما أدى إلى نشوء نمط جديد من علاقات الإنتاج.
تختلف الطبيعة الديموغرافية للمجتمع الرقمي كثيرا عن المجتمع الطبيعي، فالفرد في المجتمع الرقمي يمتلك القدرة على خلق البيئة التي توفر له الراحة والفائدة، فبإمكانه اختيار الأشخاص الذين يتعامل معهم ويضعهم في قائمة (الجات chat) مثلا ليكون كالجيران في المجتمع الطبيعي، يراقبهم من النافذة ويرى متى يكونون متواجدين ليتعامل معهم، كما يمكنه حجب كل الأشخاص الذين لا يرغب بالتعامل معهم، كما أن (المفضلة Favorites) تمثل وسيلة أخرى لخلق البيئة المرغوبة من خلال تحديد المواقع التي يدخلها الفرد يوميا.
يمكن القول أن المجتمع الرقمي يقع في منطقة بين الحلم والواقع، فهو حلم إرادي يتيح للفرد أن يكون ما يتمنى هو لا ما حكم عليه المجتمع الطبيعي أن يكون، فبإمكانه أن يختار لنفسه اسما جديدا يتمناه وعمرا مثاليا وصورة يرغب فيها، بل إنه يستطيع حتى تغيير جنسه إن رغب في ذلك. وهذا ما يتيح للفرد شكلا من العلاقات الاجتماعية لا يمكن مقارنته أبدا بالعلاقات في المجتمع الطبيعي، فالأسس والضوابط والوسائط مختلفة تماما.
ومن أجل التوضيح فقط يمكن أن نشبه الحاسوب الشخصي بالمنزل الشخصي، إنه مكانك الذي فيه ممتلكاتك وأسرارك الشخصية، وهكذا يمكن أن ننظر إلى برامج المحادثة كما لو كانت غرفة الضيوف في المنزل يمكنك أن تستقبل فيها الأصدقاء والشخصيات التي يربط بينك وبينهم عمل ما، وكما في المجتمع الطبيعي لا يستطيع هؤلاء الضيوف رؤية ما في منزلك خارج هذه الغرفة الا بإرادتك، ولكن على الضد من المجتمع الطبيعي لا يستطيع الضيوف رؤية بعضهم البعض الآخر.
كما يمكن النظر إلى المستعرضات (Explorers) على أنها البيئة العامة التي تشمل الطرقات والأسواق والمدارس والمنتديات والمكتبات وأماكن اللهو والتسلية والتنزه.
وكما في المجتمع الطبيعي تتنوع أنماط السلوك في المجتمع الرقمي فهناك الأسوياء والعصابيون والمنحرفون، هناك المتفائلون والمتشائمون، الشخصيات المرحة والكئيبة،...... وليس بالضرورة أن تتطابق الشخصية الرقمية مع الشخصية الطبيعية للفرد نفسهفهناك الكثير من الأفراد الذين استطاعوا أن يخلقوا شخصيات لهم أصبحت مشهورة على الشبكة بينما هم مغمورون في المجتمع الطبيعي، وهناك الكثير من الأسوياء في المجتمع الطبيعي يعيشون في المجتمع الرقمي بشخصيات منحرفة.
ثمة مظهران من مظاهر المجتمع الرقمي السيكولوجية لابد من الإشارة إليهما، أما الأول فهو إمكانية التنكر، أي تقمص شخصية أخرى لا علاقة لها بالشخصية الطبيعية ويتيح هذا إمكانية ظهور المحتالين التي تمثل ظاهرة الرسائل المزعجة (SPAM) المثال الأبرز عليها.
وأما الثاني فهو إمكانية التخفي (Anonymity) وهي مختلفة عن التنكر وتعني امكانية تنقل الفرد في الفضاء الرقمي من غير أن يكون مرئيا، وتتيح هذه الإمكانية حدوث الجريمة الرقمية وظهور القراصنة واللصوص الرقميين. وهكذا يكون بإمكان شخص متخف الدخول إلى منزلك (حاسبتك الشخصية) والعبث بمحتوياته، وربما يسرق هويتك (بياناتك الشخصية) ويظهر في المجتمع الرقمي بها ويراسل الآخرين باسمك ومن بريدك الشخصي الذي سيطلع عليه ويكشف من خلاله كل علاقاتك الشخصية.
تقوم الكثير من محركات البحث التي أهمها (google و yahoo) بجمع المعلومات عن المستخدمين من خلال ما يبحثون عنه فيها، وتستفيد من هذه المعلومات في أنشطة قد يعد بعضها تعديا على الخصوصية الفردية، فمن خلال ما تبحث عنه يستطيع محرك البحث دراسة رغباتك ويقوم بعرض الاعلانات التجارية التي تستهويك، كما أنهم يوفرون تلك المعلومات التي يجمعونها للمنتجين لدراسة رغبات مجتمع المستهلكين.
تمثل المنتديات على الشبكة مثالا جليا للأنشطة الجماعية، حيث يظهر فيها سلوك الأفراد الرقميين عندما يكونون داخل جماعة، وهنا تظهر شخصيات كارزمية لها قابليات قيادية وشخصيات أخرى تمثل الجمهور المقاد، وتظهر شخصيات اجتماعية قادرة على الاندماج السريع والتفاعل مع الجماعة وشخصيات أخرى صعبة المراس، شخصيات لبقة تتمتع بلياقة محببة وشخصيات مزعجة منفرة، شخصيات تقيم علاقات صداقة علنية في المنتديات وشخصيات تبحث عن الأبواب الخلفية لتقيم علاقات سرية غير مرئية من قبل الجماعة.
ما أردناه في هذا المقال إثارة موضوعات يمكن أن تشكل حقولا للدراسة لتأسيس علم النفس الرقمي الذي لم بشر اليه على أنه علم مستقل إلى الآن، والمقال دعوة للمختصين بالدراسة السيكولوجية للبحث في هذا الميدان.
أكاديمي عراقي